للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلَا تَرَى أَنَّ خِلَافَهُ اُعْتُبِرَ بِدَلِيلِهِ لَا لِعَيْنِهِ.

وَدَلِيلُهُ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْإِجْمَاعِ تَضْلِيلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ، وَقَدْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ بَرِيَّةٌ بَتَّةٌ بَائِنٌ وَنَوَى الثَّلَاثَ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يُحَدُّ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّهَا رَجْعِيَّةٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ عِنْدَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ دَلِيلَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً هُوَ اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ بِالْكَرَامَةِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الدَّلِيلَ بَاقٍ فَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ نُسِخَ كَنَصٍّ يُتْرَكُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْخِلَافَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُرْتَفِعًا بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ وَجَعَلَ عَدَمَ الِاخْتِلَافِ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحُجَّةَ اتِّفَاقُ كُلِّ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَحْصُلْ اتِّفَاقُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ الْأَوَّلَ مِنْ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِمَوْتِهِ عَنْ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَبْطُلْ قَوْلُهُ بِهِ إذْ لَوْ بَطَلَ لَمْ يَبْقَ الْمَذَاهِبُ بِمَوْتِ أَصْحَابِهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَصَارَ قَوْلُ الْبَاقِينَ مِنْ الْأُمَّةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمٍ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمَاتَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ إجْمَاعًا لِكَوْنِهِمْ كُلَّ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ اتِّفَاقُ كُلِّ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا الْكَلَامَ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ خِلَافَهُ أَيْ خِلَافَ الْمُخَالِفِ اُعْتُبِرَ لِدَلِيلِهِ لَا لِعَيْنِهِ أَيْ لَا لِذَاتِ الْمُخَالِفِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ غَيْرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا بِالدَّلِيلِ وَدَلِيلُ الْمُخَالِفِ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَكَانَ كَبَقَاءِ نَفْسِهِ مُخَالِفًا؛ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَهُ اخْتِلَافٌ تَضْلِيلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْ يَلْزَمُ مِنْ تَصْحِيحِهِ نِسْبَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إلَى الضَّلَالِ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ لَوْ انْعَقَدَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ذَهَبَ الْمُجْمِعُونَ إلَيْهِ وَأَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ خَطَأٌ بِيَقِينٍ فَكَانَ فِيهِ نِسْبَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إلَى الضَّلَالِ إذْ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ هُوَ الضَّلَالُ وَأَحَدٌ لَا يَظُنُّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ضَلَّ فِي إنْكَارِهِ الْعَوْلَ وَفِي تَوْرِيثِهِ الْأُمَّ ثُلُثَ كُلِّ الْمَالِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَإِنْ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَا بِابْنِ مَسْعُودٍ ذَلِكَ فِي تَقْدِيمِهِ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَإِنْ أَجْمَعُوا بَعْدَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً؛ فَإِنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا جَمِيعًا لَكِنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْأَصْلِ فَأَسْنَدَهُ إلَيْهِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ حَرَامٌ، وَقَالَ: أَرَدْت بِذَلِكَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، ثُمَّ جَامَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا اخْتِلَافًا ظَاهِرًا. وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إنَّهَا أَيْ الطَّلْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِهَذَا اللَّفْظِ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بَعْدَ الصَّحَابَةِ: إنَّ الْوَاقِعَ بِالْكِنَايَةِ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ عِنْدَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْوَاقِعَ بِالْكِنَايَاتِ بَوَائِنُ فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلِأَنَّ الْوَاقِعَ بِالْكِتَابَةِ وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا إلَّا أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَصِحُّ وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَوَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ يُوجِبُ الْحَدَّ بِالِاتِّفَاقِ إذَا قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يُوجَبْ الْحَدُّ هَاهُنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ السَّابِقَ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ.

وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ السَّابِقَ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي عَرَفْنَا بِهَا كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ إجْمَاعٍ سَبَقَهُ وَبَيْنَ إجْمَاعٍ لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ فَصَرْفُهَا إلَى إجْمَاعٍ لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ تَقْيِيدٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ فَكَانَ بَاطِلًا.

، أَلَا تَرَى أَنَّ اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ دُونَ مَنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَوَهُّمُ قَوْلٍ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، فَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ مَنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي عَصْرِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. يُبَيِّنُهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَحَدِهِمَا لَسَقَطَ الِاخْتِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرُ، فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>