للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا التَّضْلِيلُ فَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ يَوْمَئِذٍ كَانَ حُجَّةً لِفَقْدِ الْإِجْمَاعِ فَإِذَا حَدَثَ الْإِجْمَاعُ انْقَطَعَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ لِلْحَالِ وَذَلِكَ كَالصَّحَابَةِ إذَا اخْتَلَفُوا بِالرَّأْيِ فَلَمَّا عَرَضُوا ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَرَدَّ قَوْلَ الْبَعْضِ لَمْ يَنْسُبْ صَاحِبَهُ إلَى الضَّلَالِ وَكَصَلَاةِ أَهْلِ قُبَاءَ بَعْدَ نُزُولِ النَّصِّ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحَدَّ بِالشُّبْهَةِ وَمِنْ شَرْطِهِ اجْتِمَاعُ مَنْ هُوَ دَاخِلٌ فِي أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا شَرَطَ الْأَكْثَرَ وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً كَرَامَةً تَثْبُتُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ فَلَا تَثْبُتُ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ..

ــ

[كشف الأسرار]

فِي إجْمَاعِ التَّابِعِينَ مِثْلُ الْحُجَّةِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَمَّا سَقَطَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ بِإِجْمَاعِهِمْ سَقَطَ بِإِجْمَاعِ الْبَاقِينَ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ حُجَّةً لَتَعَارَضَ الْإِجْمَاعَاتُ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ خِلَافِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ دَلِيلٌ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَعْلِيلٍ، وَهُوَ يُعَارِضُ إجْمَاعَ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى امْتِنَاعِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّعَارُضِ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ سَمْعًا قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلَيْنِ دَلِيلًا عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَطَأً إذْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِالْخَطَأِ خَطَأٌ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا إجْمَاعَهُمْ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّا نَقُولُ: وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَمَا أَنْ نَسُوغَهُمْ بِالْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ مَشْرُوطٌ بِانْتِفَاءِ الْقَاطِعِ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ تَقْدِيرُ الِاشْتِرَاطِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ لَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ ثَانٍ عَلَى خِلَافِ إجْمَاعٍ أَوَّلٍ وَلَجَازَ أَنْ يُخَالِفَ وَاحِدٌ الْإِجْمَاعَ وَيُقَدِّرَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الثَّانِي أَوْ بِعَدَمِ الْوَاحِدِ الْمُخَالِفِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.

قُلْنَا: فِيهِ إبْطَالُ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْجَوَازِ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجَوَازُ هَاهُنَا وَلَوْ سُلِّمَ فَالْإِجْمَاعُ يَمْنَعُ مِنْهُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الصُّورَتَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ خِلَافُهُمْ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ كَلَامِ الْخَصْمِ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ الْخَصْمِ أَنَّ الدَّلِيلَ بَاقٍ فَهُوَ كَذَلِكَ أَيْ هُوَ كَمَا قَالَ لَكِنَّهُ نُسِخَ أَيْ لَمْ يَبْقَ مُعْتَبَرًا مَعْمُولًا بِهِ بَعْدَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ كَنَصٍّ يَنْزِلُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْرُجُ الْقِيَاسُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مَعْمُولًا بِهِ.

قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ بِوَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَرَجَ الْأَحْكَامُ عَنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ الَّذِي تَوَقَّفَ النَّسْخُ عَلَيْهِ بِوَفَاتِهِ بَلْ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا بَلْ كَانَ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَظْهَرُ خَطَأً أَبَدًا بَلْ يَتَقَرَّرُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَأَمَّا الشُّبْهَةُ فَتَزُولُ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْبُطْلَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ شُبْهَةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ بِوَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعِيَّةُ النَّسْخِ بِالْوَحْيِ وَبَقِيَتْ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ فِي زَمَانِهِ عَلَى مَا كَانَتْ، فَأَمَّا الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجُوزُ أَنْ تُنْسَخَ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمٍ بِإِجْمَاعِ أَوْ بِاجْتِهَادِ أَهْلَ عَصْرٍ آخَرَ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى خِلَافِهِ بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادٍ نُسِخَ لَهُمْ عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ وَيَكُونُ هَذَا بَيَانًا لِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي النُّصُوصِ وَلَا يُقَالُ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الْحُكْمِ بِآرَائِهِمْ بَلْ نَقُولُ لَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِانْتِهَاءِ الْمَصْلَحَةِ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَبَدَّلَ بِتَبَدُّلِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا عِنْدَ الِاتِّفَاقِ تَبَدُّلَ الْمَصْلَحَةِ وَمُدَّةَ الْحُكْمِ.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا التَّضْلِيلُ فَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ كَانَ حُجَّةً يَوْمَئِذٍ) إلَى آخِرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلِأَنَّ التَّضْلِيلَ هُوَ الْخَطَأُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَلَا بَلْ هُوَ خَطَأٌ مَعْذُورٌ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>