للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ رَسُولَنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَشَرِيعَتَهُ بَاقِيَةٌ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَأُمَّتُهُ ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَقِّ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.

قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَقَالَ حَتَّى تُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ»

ــ

[كشف الأسرار]

الدَّلِيلُ عَلَى تَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ دَلَّ عَلَى تَجْوِيزِهِ فِي شَيْءٍ آخَرَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَارِقٌ لَمْ يَثْبُتْ تَخْصِيصٌ بِالتَّحَكُّمِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَخْبَارُ إنَّمَا وَرَدَتْ لِإِيجَابِ مُتَابَعَةِ الْأُمَّةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا وَالزَّجْرِ عَنْ الْمُخَالَفَةِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَطَأُ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ بَلْ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ لَامْتَنَعَ إيجَابُ الْمُتَابَعَةِ فِيهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَلَبَطَلَتْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْأُمَّةِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَصْدُ تَعْظِيمِهَا لِمُشَارَكَةِ آحَادِ النَّاسِ إيَّاهُمْ فِي الْعِصْمَةِ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ إذْ مَا مِنْ شَخْصٍ يُخْطِئُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ يُعْصَمُ عَنْ الْخَطَإِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِمْ الْأُمَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ لَيْسَ كُلَّ الْأُمَّةِ فَلَا يَمْتَنِعُ الْخَطَأُ وَالضَّلَالُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَمَّا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، هُوَ الزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ وَالْحَثُّ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ لَا يُتَصَوَّرُ حَمْلُ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إذْ لَا زَجْرَ وَلَا حَثَّ فِيهَا.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَكَذَا) وَتَقْرِيرُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَطْعِيِّ أَنَّ نَبِيَّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرِيعَتَهُ دَائِمَةٌ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فَمَتَى وَقَعَتْ حَوَادِثُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَاطِعٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمِهَا وَلَمْ يَكُنْ إجْمَاعُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَخَرَجَ الْحَقُّ عَنْهُمْ وَوَقَعُوا فِي الْخَطَأِ أَوْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا وَخَرَجَ الْحَقُّ عَنْ أَقْوَالِهِمْ؛ فَقَدْ انْقَطَعَتْ شَرِيعَتُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَكُونُ شَرِيعَتُهُ كُلُّهَا دَائِمَةً فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي أَخْبَارِ الشَّارِعِ وَذَلِكَ مُحَالٌ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً لِتَدُومَ الشَّرِيعَةُ بِوُجُودِهِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْمُحَالِ وَلَا يُقَالَ: إنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ فِي حَقِّ الْعَمَلِ كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى انْقِطَاعِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى اعْتِبَارِ إصَابَةِ الْحَقِّ ظَاهِرًا وَعَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَخْرُجُ الْحَقُّ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَمَتَى جَوَّزْتُمْ خُرُوجَ الْحَقِّ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ لَمْ يَكُنْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ يَكُونُ عَمَلًا بِخِلَافِ شَرِيعَتِهِ فَتَنْقَطِعُ شَرِيعَتُهُ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَبَدًا.

فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ انْقِطَاعُ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ إنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الشَّرْعِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ بِنَصٍّ مِثْلُ وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَبْقَى بِبَقَاءِ ذَلِكَ النَّصِّ وَلَا أَثَرَ لِلْإِجْمَاعِ فِي إثْبَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمْ يَكُنْ النَّصُّ الْمُوجِبُ لِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ مُتَنَاوِلًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الْمَوْجُودَةَ فِي الشَّرِيعَةِ وَقْتَ وُرُودِهِ لَا مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِهِ انْقِطَاعُهَا. عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ هَذَا النَّصِّ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِهِ انْقِطَاعُ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ لِبَقَاءِ أُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ عَدَمُ الشَّرِيعَةِ.

قُلْنَا: جَمِيعُ الْأَحْكَامِ ثَابِتَةٌ مَشْرُوعَةٌ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ حَقِيقَةً بَعْضُهَا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَبَعْضُهَا بِمَعَانِيهَا الْخَفِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْبَعْضَ كَانَ خَفِيًّا يَظْهَرُ بِالِاجْتِهَادِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ لَا مُثْبِتٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْجَمِيعُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ الْمُوجِبِ بَقَاءَ الشَّرِيعَةِ فَيَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِ الْبَعْضِ خِلَافُ النَّصِّ، وَقَوْلُهُمْ: لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْبَعْضِ انْتِفَاءُ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>