وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ وَلِمَعْنًى فِي الْمَدْلُولِ أَمَّا الدَّلِيلُ فَشُبْهَةٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ بِمَا هُوَ شُبْهَةٌ فِي الْأَصْلِ مَعَ كَمَالِ قُدْرَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْمَدْلُولِ فَلِأَنَّ الْمَدْلُولَ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُطَاعُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعُقُولِ وَالْآرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الشَّرَائِعِ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْعُقُولِ مِثْلُ الْمُقَدَّرَاتِ وَمِنْهَا مَا يُخَالِفُ الْمَعْقُولَ
ــ
[كشف الأسرار]
عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَضَرُّهَا عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَيُحَلِّلُونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» وَمِثْلُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَالْفَتْوَى بِالرَّأْيِ فَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ أَعْيَتْهُمْ السُّنَّةُ أَيْ لَمْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِرَأْيِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَأَرَأَيْت وَأَرَأَيْت؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي أَرَأَيْت وَأَرَأَيْت وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ عَمِلْتُمْ فِي دِينِكُمْ بِالْقِيَاسِ أَحْلَلْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَحَرَّمْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا حَدَّثُوك عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَدِّثْهُ وَمَا أَخْبَرُوا عَنْ رَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي الْحَشِّ، وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقِيسُ شَيْئًا إنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ.
١ -
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَكَذَا) وَتَمَسَّكُوا بِوُجُوهٍ مِنْ الْمَعْقُولِ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَلِمَعْنًى فِي الْمَدْلُولِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، أَمَّا الدَّلِيلُ أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدَّلِيلِ فَشُبْهَةٌ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا سَنُقَرِّرُهُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ يَعْنِي أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ صَرِيحًا وَلَا إشَارَةً وَلَا دَلَالَةً وَلَا اقْتِضَاءً بَلْ امْتَازَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ بِالرَّأْيِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْ احْتِمَالِ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ، وَلِهَذَا تَرَى الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي عِلَّةِ نَصٍّ وَاحِدٍ مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي عِلَّةِ الرِّبَا وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِالْقِيَاسِ مِنْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي فِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ الْعَجْزُ وَالْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ بِخِلَافِ أَخْبَارِ الْآحَادِ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا قَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِ الِانْتِقَالِ إلَيْنَا فَيُؤَثِّرُ تَمَكُّنُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي انْتِفَاءِ الْيَقِينِ وَلَا يَخْرُجُ الْخَبَرُ بِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ كَالنَّصِّ الْمُؤَوَّلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً بِالشُّبْهَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فِيهِ بِتَأْوِيلِنَا وَبِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ لِعَجْزِهِمْ عَنْ إثْبَاتِهَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ.
أَمَّا الَّذِي فِي الْمَدْلُولِ فَهُوَ أَنَّ الْمَدْلُولَ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَقَبُولُ الدِّينِ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ مِنْ بَابِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِلْعُبُودِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: ٥٩] وَلَا يُطَاعُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعُقُولِ وَالْآرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الطَّاعَةِ إلَّا بِكَمِّيَّةٍ وَكَيْفِيَّةٍ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ كَمِّيَّةِ الطَّاعَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا وَلَا لِلْعَقْلِ وُقُوفٌ عَلَى حُسْنِ الْمَشْرُوعِ وَقُبْحِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ إجْمَالًا لَا كَحُسْنِ شُكْرٍ الْمُنْعِمِ وَقُبْحِ الْكُفْرِ بِهِ بَلْ طَرِيقُ الطَّاعَةِ هُوَ الِابْتِلَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الشَّرَائِعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute