وَلَا يَلْزَمُ أَمْرُ الْحُرُوبِ وَدَرْكُ الْكَعْبَةِ وَتَقْوِيمُ الْمُتْلَفَاتِ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَمَّا غَيْرُ الْقِبْلَةِ فَلَا يُشْكِلُ، وَأَمَّا الْقِبْلَةُ فَأَصْلُهُ مَعْرِفَةُ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ حَقُّ الْعِبَادِ فَبُنِيَ عَلَى وُسْعِهِمْ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا تُعْقَلُ بِوُجُوهٍ مَحْسُوسَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ وَمُهُورَ النِّسَاءِ وَأُمُورَ الْحَرْبِ تُعْقَلُ بِالْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ وَكَذَلِكَ الْقِبْلَةُ وَكَانَ يَقِينًا بِأَصْلِهِ عَلَى مِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
ــ
[كشف الأسرار]
مَا لَا يُدْرَكُ أَلْبَتَّةَ بِالْعُقُولِ مِثْلُ الْمُقَدَّرَاتِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَمِنْهُ أَيْ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَوْ مِنْ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الشَّرَائِعُ مَا يُخَالِفُ الْمَعْقُولَ أَيْ الْقِيَاسَ الظَّاهِرَ وَالدَّلِيلَ الظَّاهِرَ الَّذِي عُرِفَ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يُخَالِفُ دَلِيلَ الْعَقْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاقَضَا بِوَجْهٍ وَذَلِكَ مِثْلُ بَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا وَبَقَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ السَّلَامِ فِي الْقَعْدَةِ سَاهِيًا وَبَقَاءِ الطَّهَارَةِ مَعَ سَلَسِ الْبَوْلِ وَأَشْبَاهِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالرَّأْيِ فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ بِالرَّأْيِ عَمَلًا بِالْجَهَالَةِ لَا بِالْعِلْمِ فَلَا يُمْكِنُ إعْمَالُ الرَّأْيِ فِيهِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ تَعَلَّقَ النَّظَّامُ فَقَالَ: مَدَارُ الشَّرْعِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ فِي الْأَحْكَامِ كَإِيجَابِ الْغُسْلِ بِالْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ بَلْ أَنْجَسُ مِنْهُ وَكَإِيجَابِ الْقَطْعِ عَلَى سَارِقِ الْقَلِيلِ دُونَ غَاصِبِ الْكَثِيرِ.
وَكَإِيجَابِ الْجَلْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا دُونَ النِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ وَكَإِيجَابِ الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ دُونَ إيجَابِ حَدِّ الزِّنَا بِهِمَا مَعَ أَنَّ الزِّنَا دُونَ الْقَتْلِ وَكَإِثْبَاتِ الْإِحْصَانِ بِالْحُرَّةِ الشَّيْخَةِ الشَّوْهَاءِ وَعَدَمِ إثْبَاتِهِ بِمِائَةٍ مِنْ الْجَوَارِي الْحِسَانِ وَكَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى شَعْرِ الشَّيْخَةِ الشَّوْهَاءِ وَإِبَاحَتِهِ إلَى شَعْرِ الْأَمَةِ الْحَسْنَاءِ، وَكَإِبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْحُرَّةِ الْحَسْنَاءِ وَتَحْرِيمِهِ إلَى شَعْرِهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي تَهْيِيجِ الشَّهْوَةِ بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ تَهَيُّجُهَا عِنْدَ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ أَكْثَرَ مِنْهُ عِنْدَ النَّظَرِ إلَى الشَّعْرِ. وَعَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزِّنَا فِي إيجَابِ الْقَتْلِ وَكَالْجَمْعِ بَيْنَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَخَطَأً فِي إيجَابِ الضَّمَانِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمُظَاهِرِ وَالْمُفْطِرِ عَمْدًا فِي إيجَابِ الرَّقَبَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحْلَلَ وُرُودَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ مِنْ الشَّارِعِ لِكَوْنِهِ وَارِدًا عَلَى خِلَافِ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ قَضِيَّةَ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ فِي أَحْكَامِهَا وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي أَحْكَامِهَا.
١ -
قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ أَمْرُ الْحُرُوبِ) جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ فَإِنَّ الرَّأْيَ مَعَ احْتِمَالِهِ لِلْخَطَأِ وَالْغَلَطِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُرُوبِ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأَرْكَانِهِ.
وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي دَرْكِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الْبُعْدِ عَنْهَا وَعِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَكَذَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ عِنْدَ إيجَابِ ضَمَانِهَا، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَثْبُتُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ فَيُنْتَقَضُ بِهِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُطَاعُ بِالرَّأْيِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَالُوا: مَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ بِلَازِمٍ عَلَيْنَا.
أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى اسْتِحَالَةُ إثْبَاتِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّأْيِ دُونَ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهُ يَلِيقُ بِحَالِهِمْ الْعَجْزُ وَالِاشْتِبَاهُ فِيمَا يَعُودُ إلَى مَصَالِحِهِمْ الْعَاجِلَةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُسْعُ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ الْوُصُولُ إلَى مَقَاصِدِهِمْ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالرَّأْيِ، أَمَّا غَيْرُ الْقِبْلَةِ فَلَا يُشْكِلُ لَأَنْ يَقَعَ تَقْوِيمُ الْمُتْلَفَاتِ رَاجِعٌ إلَيْهِمْ فِي الْعَاجِلَةِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الِانْتِصَافِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا.
وَكَذَا أَمْرُ الْحُرُوبِ فَإِنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهِ ضُرًّا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَوْ يَجُرُّونَ نَفْعًا إلَيْهَا فَيَكُونُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا الْقِبْلَةُ أَيْ دَرْكُهَا فَأَصْلُهُ بِمَعْرِفَةِ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَقَالِيمِ، وَذَلِكَ أَيْ عِرْفَانُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute