للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مَوَاضِعَ الْقِيَاسِ مُمْكِنٌ وَذَلِكَ دَلِيلٌ دُعِينَا إلَى الْعَمَلِ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: ١٤٥] الْآيَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أُمُورِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَعَمِلْنَا بِالِاجْتِهَادِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِمَنْ مَضَى مِنْ الْقُرُونِ فِي الْمَثُلَاتِ وَالْكَرَامَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يُعْقَلُ بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى أَمْرِ الْحَرْبِ يُحْمَلُ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى وَأَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَإِنَّمَا نَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهُ تَبَرُّكًا وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ

ــ

[كشف الأسرار]

أَقَالِيمِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَى مَعْرِفَتِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ لِلتِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ فَبُنِيَ عِرْفَانُهَا عَلَى وُسْعِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ فَلِذَلِكَ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ فِي دَرْكِ الْقِبْلَةِ لِاضْطِرَارِهِمْ وَعَجْزِهِمْ بِخِلَافِ حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِمَا فِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ وَأُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ التَّنْصِيصَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا لَا امْتِنَاعَ فِي التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَأَحْكَامِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ دُونَ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ التَّنْصِيصُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالِاعْتِبَارَاتِ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهَا كَالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الرَّأْيُ

، وَأَمَّا الثَّانِي أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُدْرَكُ بِالْعُقُولِ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمْ أَيْضًا لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا تُعْقَلُ بِوُجُوهٍ مَحْسُوسَةٍ؛ فَإِنَّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِهِ فِي الصِّفَاتِ وَكَذَا مَهْرُ الْمَرْأَةِ يُعْرَفُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِهَا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا، وَكَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَرْبِ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ التَّلَفِ أَوْ قَهْرُ الْخَصْمِ وَأَصْلُ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ مِثْلُ التَّوَقِّي عَنْ السُّمِّ وَعَنْ الْوُقُوعِ عَلَى السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُتْلِفٌ.

وَكَذَا جِهَةُ الْكَعْبَةِ مَحْسُوسَةٌ فِي حَقِّ مَنْ عَايَنَهَا وَبَعْدَ الْبُعْدِ مِنْهَا قَدْ يَصِيرُ كَالْمَحْسُوسَةِ بِالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِهَا فَكَانَ إعْمَالُ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْنَى الْعَمَلِ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِي أَصْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْجَوَابُ لَا يُطَابِقُ وُرُودَ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّ الرَّأْيَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْحِسِّ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ مُسْتَنِدٌ إلَى قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ رَأْيًا مُسْتَعْمَلًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُطَاعُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا يُطَابِقُ وُرُودَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَنَدَ إلَى الْحِسِّ لَمْ يَبْقَ شُبْهَةٌ فِي أَصْلِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ بِأَنَّ أَصْلَهَا لَمَّا اسْتَنَدَ إلَى الْحِسِّ صَارَ مُلْحَقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَمْ يَكُنْ طَاعَةً بِالرَّأْيِ بَلْ بِالنَّصِّ تَقْدِيرًا، وَكَأَنَّ الشَّيْخَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَى مِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قُلْنَا وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِالْجَوَابِ الْأَوَّلِ فَيَقُولُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ قِبَلِ الطَّاعَةِ بَلْ هِيَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَمَا قَرَّرْنَا فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهَا الرَّأْيُ.

وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا أَيْ بِالْمَنْعِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا أَيْ مَعَ مَعَانِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ عَنْ الْقِيَاسِ احْتَاجَ عَنْ التَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي النُّصُوصِ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ قَالُوا: وَفِي الْحَجْرِ عَنْ الْقِيَاسِ أَمْرَانِ أَنَّ بِهِمَا قِوَامُ الدِّينِ وَنَجَاةُ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّا مَتَى حَجَرْنَا عَنْ الْقِيَاسِ لَزِمَنَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ وَالتَّبَحُّرُ فِي مَعَانِي اللِّسَانِ، وَفِي مُحَافَظَةِ النُّصُوصِ إظْهَارُ قَالَبِ الشَّرِيعَةِ كَمَا شُرِعَتْ، وَفِي التَّبَحُّرِ فِي مَعَانِي اللِّسَانِ إثْبَاتُ حَيَاةِ الْقَالَبِ فَتَمُوتُ الْبِدَعُ بِظُهُورِ الْقَالِبِ؛ فَإِنَّ عِنْدَ ظُهُورِهِ يَتَبَيَّنُ الزَّيْغُ الَّذِي هُوَ بِدْعَةٌ عَنْ الْحَقِّ وَيَسْقُطُ الْهَوَى بِحَيَاةِ الْقَالِبِ لِأَنَّ الْقَالِبَ لَا يَحْيَى إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي مَعَانِي النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا غَائِرَةٌ جُمَّةٌ لَنْ تَنْزِفَ بِالرَّأْيِ، وَإِنْ فَنِيَتْ الْأَعْمَارُ فِيهَا فَلَا يَفْضُلُ الرَّأْيُ لِلْهَوَى فَيَتِمُّ أَمْرُ الدِّينِ بِمَوْتِ الْبِدَعِ وَيَسْتَقِيمُ الْعَمَلُ بِسُقُوطِ الْهَوَى وَفِيهَا الْفَوْزُ وَالنَّجَاةُ لِلنَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ

<<  <  ج: ص:  >  >>