وإعجازها في تأليف القلوب وتربية النفوس، إلا إذا عرف الإنسان وضعيّة هذه البيئة الغريبة المعقّدة التي واجهها الرسول والمسلمون.
ولا تفهم كثير من الحوادث والأحكام التي يمرّ بها القارىء في كتب السيرة والحديث إلا إذا عرف حالة المدينة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وطبيعة أرضها وجغرافية هذا البلد وما حوله، وما كان يتركب به من عناصر إنسانية وإقليمية، وصلات أجزاء عمرانه بعضها ببعض، والأعراف والمعاملات الشائعة قبل الهجرة وانتشار الإسلام فيه.
فإذا جهل القارىء كلّ هذا، وبدأ رحلته في كتب السيرة شعر بأنه يمشي في نفق لا يبصر فيه ما حوله، وكان على غير بينة من الأمر.
وكذلك القول عن الحكومات المعاصرة والبلاد المجاورة، فلا يتبيّن القارىء خطورة الإقدام الذي قامت به الدعوة الإسلامية، وقوة مغامرتها، إلا إذا عرف حجم هذه الحكومات التي كانت تقوم حوله، والتي خاطبها الإسلام ودعاها الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلى الإيمان برسالته، وقبول حكم الإسلام، وما وصلت إليه من المدنية والثقافة، والقوة الحربية والرفاهية والعمران، وما كان يتمتع به ملوكها من حول وطول، وصولة وشوكة.
وقد ألقى العلم الحديث ضوءا على تاريخ هذه الحكومات والبلاد والمجتمعات التي كانت تعيش فيها، ورفع الستار عن كثير مما كان مجهولا أو غامضا أو ملتويا في العصر القديم، فكان من الواجب أن يستعين بكل ذلك المؤلّف العصريّ في السيرة النبوية، ويستعين بالحديث الأحدث ممّا كتب ونشر من كتب التاريخ والجغرافية، والدراسة المقارنة.
كان المؤلّف يشعر بكلّ هذا مع اعتراف بجهود المؤلّفين في هذا الموضوع، وبقيمة ما صدر عن أقلامهم في فترات مختلفة ولغات مختلفة،