العادل الأخير، وقد نصّب الإنسان نفسه لأكبر عقوبة تتصوّر، بل لعقوبة الإعدام.
ولا عجب في ذلك، فحينما تتعدّى المدنية حدودها الطبيعية وتخرج من طورها، وتنسى القيم الخلقيّة كليّا، أو تكفر بها صراحة وعلنا، ويتغافل الإنسان عن كلّ غاية نبيلة، ومقصد شريف، وعن كل واقع وحقيقة غير الحقائق الماديّة، وتحقيق ماربه الجسديّة، وإرواء ظمئه الحيوانيّ، وحينما يحلّ محلّ القلب الإنسانيّ قلب الذئب والنمر والفهد، وتتكوّن في جسمه معدة خياليّة أو صناعية، ونفس أمّارة بالسوء، لا يقرّ لها قرار، ولا يضبطها وازع أو رادع، وحينما تصيب الإنسانيّة نوبة شديدة من الجنون، يبعث الله لها جماعة من الجرّاحين، أو عصابة من السفاحين، وتأتي لأورامها المنتفخة سكاكين من ظهر الغيب تقضي عليها، وتقطع دابرها، وتستأصل شأفتها.
إنّ فساد المدنيّة وهوسها وجنونها أشدّ من جنون الملكيّة والحكم الشخصيّ، وأوسع منه شرا لأنّه حين يجنّ جنون شخص ضعيف نحيل واحد يقضّ مضاجع أهل الحارة كلّها، وينغّص عيشهم الهادىء. تصور ماذا يحدث في العالم، إذا جنّ جنون النوع البشريّ أجمع، وتنخّر هيكل المدنية وتعفّن، وفسدت طبيعة الإنسانيّة؟ هل له من رقية أو علاج؟
إلّا أنّه لم تفسد المدنيّة فحسب في العصر الجاهليّ، بل تفسّخت جثتها، وتعفّنت، ونشأت فيها ديدان قذرة، وأصبح الإنسان يقتنص الإنسان ويصطاده، ويتلذذ بسكراته وشدائده عند الموت، ويتمتع بحالة الاحتضار، كما يتمتع أحدنا بمنظر البساتين والأشجار والورود والأزهار، ويطرب ويهتزّ لاضطرابه وتقلّبه على الحجر، ويفرح بأنين المصاب والمريض والمنكوب،