الواقع أنه قد وجدت الفوضى والأحقاد مرتعًا خصبًا في ظلّ هذه السيادة أيضًا، كما وجدت لها الدعاة والمشرعين والمنفذين مكتسحة في طريقها كل نظام يخالفها, وبالأخص أنظمة الكنيسة وتعاليمها وأخلاقها وآدابها إثر ذلك الصراع المرير مع رجال الكنيسة, الذين استأثروا بكل شيء وأذلّوا الأمة من خلال فرض طاعتهم المقدَّسة, فتمردوا على تلك الطاعة المقدَّسة ونسفوا في طريقهم كل شيء يمتُّ بصلة إلى الدين أو القداسة الناشئة عنه, واستبدلوا به قداسة نظرياتهم, وجعلوها هي السيد المطاع المقدَّس صاحبة السلطان المطلق, المكتسبة لقداستها من ذاتها أولًا وأخيرًا, ولها حق التشريع في كل أمور الحياة بعيدًا عن الدين الذي حلَّ محله القانون أو الأمة أو الشعب, وجعلت هذه هي الإله الجديد, وقد وصفوا هذه النظريات بكلِّ صفات الإلوهية وقداستها, ووضعوا ما يحلو لهم من التشريع تحليلًا وتحريمًا وأمرًا ونهيًا دون الرجوع إلى أيّ مصدر كان -غير أهوائهم, فتحوَّل التأليه الذي كان يمارسه الرهبان على الناس, تحوَّل إلى تأليه عامَّة الشعب واعتبار ما يوافق عليه الشعب هو الحق المطاع تحليلًا وتحريمًا دون معارضة، وداروا في حلقات مفرغة ونظريات مضطربة متناقضة, كلما عنَّ لهم سراب مشوا إليه, ورحم الله من قال:"من تتبَّع آراء الرجال كثُرَ تنقله" فلم يتحقق الغرض الذي قامت من أجله حركة السيادة الشعبية على الحقيقة؛ إذ لا يستدعي الشعب لبيان آرائهم إلّا من خلال خطة مدروسة من قِبَلِ السياسيين سلفًا, فكأن التصويب من قِبَلِ الشعب إنما هو لأخذ توقيعاتهم بعد أن هيَّأهم السياسيون لذلك, من حيث تشعر الشعوب أو لا تشعر, ولا تنسى المقولة المشهورة:"رضى الناس غاية لا تدرك".