وبعد هذا العرض الموجَز للقومية يتَّضح لنا بجلاء أنها أبعد ما تكون عن الحقيقة, وأنها لا يمكن أن تتمَّ عليها المودة والرحمة واجتماع الكلمة, وأنها جاهلية أوروبية ورثها المتطلفون على الحياة الأوربية, وذهبوا يحاولون تجميل وجهها القبيح, ويزخرفون القول فيها لتجتمع عليها الكلمة, ولتحلَّ محلَّ الدين, وأبلوا في ذلك بلاء لا يحمدون ولا يشكرون عليه, وما هي إلّا لعبة سياسية ومقصِدٌ يراد من ورائه أهدافًا ومكاسب, وقد جرَّبتها أوروبا وتبيَّن لهم أنها تفسد أكثر مما تصلح فنبذوها, وقد تلقَّفها اليهود والنصارى وقدَّموها في شعارات برَّاقة للعرب ليكملوا بها تفريق الكلمة والابتعاد عن الدين -وخصوصًا الإسلام, وبعبارة أخرى نقول: لو كانت القومية فيها خير وجمع للكلمة لوحَّدت -أقل ما يمكن- بين قلوب العرب المتنافرة, بل ولو كانت كذلك لكان كل عربي يلهج بذكرها وتمجيدها خصوصًا في أيامنا هذه, وهي أيام نحس وحزن على العرب كلهم, وهم يواجهون تهديدات الدول الكبرى في اكتساح العراق وغيره من بلدان العالم بقيادة أمريكا وبريطانيا وإسرائيل, ولو كان ساسة العرب النابهين منهم يعلمون أنَّ في الدعوة إلى القومية -العربية- فيه أدنى النفع للعرب, فضلًا عن غيرهم؛ لملأوا الدنيا صياحًا وعويلًا على وجوب التزام القومية والعمل تحت لوائها, ولكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنها بضاعة مزجاة لا تصلح إلّا للاستهلاك القومي.
وكذلك أيضا الدول الكبرى قد اطمأنّوا تمامًا ووثقوا من إحكام الفرقة بين العرب وبين غيرهم, فلا يرون ضرورة للمناداة باسم القومية العربية, فلهذا لم نعد نسمع ذلك التقديس للقومية الذي كان في زمن مَنْ قبلنا مِنْ