أما العلمانية في الحكم: فمن الطبيعي أن لا يجد الحاكم العلماني أدنى ضرورة تدعوه إلى الاستعانة بحكم الدين في أية قضية، وذلك أولًا: لجهله بالدين وعدم معرفته به، وثانيًا: للعداء الشديد المستحكم الحلقات بين الدين وبين آراء المفكرين العلمانيين الذين يتصورون أنه لا تتمُّ السعادة الحقيقية للشعوب إلّا إذا أُقْصِيَ الدين تمامًا عنهم, وحكموا أنفهسم بأنفسهم, بعيدين عن التأثر بأحكام الدين التي لا ترحم الفقير ولا تجبر الكسير، بل تحابي وتمالئ الظالمين من أصحاب المناصب والجاه، كما ظهر ذلك جليًّا مما رأوه من ترابط المصالح بين رجال الدين وأصحاب الجاه والحكم؛ لتآمر الجميع على إخضاع الناس واستنزاف خيراتهم -وهو ما حصل بالفعل حين اشتدَّ طغيان رجال الكنيسة- وساعدهم -خوفًا منهم- أباطرة الحكم الذين استفادوا هم بدورهم من رجال الكنيسة في إقناع العامة بأنَّ الحكام هم من اختيار الله, وأنهم يمثلون الله في الأرض، وطاعتهم هي عينها طاعة الله تعالى، وعصيانهم عصيان له، وأن السعادة كلها في يد البابا الممثل المباشر للرب المسيح!!
وكانت النتيجة أن الثائرين نظروا إلى رجال الدين على أنهم مخادعين متآمرين هم والحكام على استعباد الناس وإذلاهم -وهو صحيح, فَتَمَّ وضع القوانين والتشريعات الجاهلية بدلًا عن كل الشرائع الإلهية التي تمثلها الكنيسة الظالمة والباب المتغطرس، فجاءت الأحكام العلمانية خليطًا مشوهًا من شتَّى الأفكار والحضارات الجاهلية, وظنُّوا أنهم وجدوا الحل المناسب لحياتهم الاجتماعية، وأنهم وجدوا السعادة التي ينشدونها, والأحكام العادلة التي يتمنونها في ظل العلمانية الوضعية التي تنقض اليوم ما أبرمته بالأمس.
وقصر بهم العزم أن يبحثوا عن مصدر العدل الحقيقي, والأحكام المتناسقة التي يسبق العقل إلى تصديقها قبل الواقع، وقد قال تعالى: