وهي التي تلغَى فيها الطبقات كلها كما يدَّعون, وقد ذكر الباحثون أنه من الصعوبة تصور الفضل المادية الجدلية عن المادية التاريخية, ذلك لأنهم أقاموا دراسة تاريخ البشرية على الأسس المادية, وقد استقرَّ في مفاهيم الملاحدة كما عرفت أن المادة هي أساس كل المخلوقات التي منها الإنسان والفكر, وأنها هي التي تحكم أيضًا حياة البشر الاجتماعية وتكيُّف حياتهم وسلوكهم وجميع معاملاتهم ومشاعرهم، وهي في تطور دائم, وما ينتج عنها من سلوك البشر هو أيضًا في تطور دائم تبعًا للأصل, وهو الوضع الاقتصادي في تطور دون أن يكون للإنسان فيه أي قدرة.
وحينما ظهر "دارون" بنظريته حول تاريخ الإنسان وأصل نشأته قرَّر أن تاريخ الإنسان إنما هو امتداد للكائنات الحية السابقة لوجوده, وأنه نتيجة عمل الطبيعة الهوجاء التي تعمل ما تعمل عن خبط عشواء لا عن تخيطط ودقة؛ لتلقي بالإنسان بعد ذلك إلى مصيره عن طريق المادة التي تكيّف الإنسان وحياته وتطوره, وكل ما يتصل بسلوكه وتاريخه فيها.
والملاحظ أنّ التفسير المادي للتاريخ لا ينفي القيم والأخلاق التي تصدر عن البشر إلّا أنه ينفي أن تكون لتلك القيم والأخلاق أو سائر السلوك وجود قبل وجود المادة والأوضاع الاقتصادية, أو أن تكون تلك القيم والأخلاق لها ثبات دائم, أو أنها من الله تعالى, بل إن تطور تاريخ المجتمعات البشرية هو قبل كل شيء مرهون بتطور الإنتاج البشري المادي, وتاريخ البشر يرتكز أساسًا على المصالح المادية التي تربط الناس بعضهم ببعض, لا على أساس ديني أو سياسي أو أخلاقي ثابت؛ إذ القيم كلها في مفهومهم سراب لا قيمة لها, والغايات تبرر الوسائل على امتداد تاريخ البشر حسب تفسيرهم.