للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يجمع رسول الله صلّى الله عليه وآله بين البذاء والبيان. وإنما وقع النهي على كل شيء جاوز المقدار، ووقع اسم العي على كل شيء قصر عن المقدار. فالعي مذموم والخطل مذموم، ودين الله تبارك وتعالى بين المقصر والغالي.

وهاهنا روايات كثيرة مدخولة، وأحاديث معلولة. رووا أن رجلا مدح الحياء عند الأحنف، وأن الأحنف قال ثمّ: يعود ذلك ضعفا. والخير لا يكون سبا للشر. ولكننا نقول: إن الحياء اسم لمقدار من المقادير ما زاد على ذلك المقدار فسمه ما أحببت. وكذلك الجود اسم لمقدار من المقادير، فالسرف اسم لما فضل عن ذلك المقدار. وللحزم مقدار، فالجبن اسم لما فضل عن ذلك المقدار. وللإقتصاد مقدار، فالبخل اسم لما خرج عن ذلك المقدار.

وللشجاعة مقدار، فالتهور والخدب اسم لما جاوز ذلك المقدار.

وهذه أحاديث ليست لعامتها أسانيد متصلة، فإن وجدتها متصلة لم تجدها محمودة، وأكثرها جاءت مطلقة ليس لها حامل محمود ولا مذموم. فإذا كانت الكلمة حسنت استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن. فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتنسب إلى هذا الأدب، فقرضت قصيدة، أو حبرت خطبة، أو ألّفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، أو يدعوك عجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل أو أشعار أو خطب، فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله. فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أول تكلفك فلم تر له طالبا ولا مستحسنا، فلعله أن يكون ما دام ريّضا قضيبا «١» ، أن يحل عندهم محل المتروك. فإذا عاودت أمثال ذلك مرارا، فوجدت الأسماع عنه منصرفة، والقلوب لاهية، فخذ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه، أو زهدهم فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>