وقال أهل التجربة: إذا كان في اللحم الذي فيه مغارز الأسنان تشمير وقصر سمك «١» ذهبت الحروف وفسد البيان. وإذا وجد اللسان من جميع جهاته شيئا يفرعه ويصكه، ولم يمر في هواء واسع المجال، وكان لسانه يملأ جوبة فمه، لم يضره سقوط أسنانه إلا بالمقدار المغتفر، والجزء المحتمل. ويؤكد ذلك قول صاحب المنطق «٢» ، فإنه زعم في كتاب الحيوان أن الطائر والسبع والبهيمة كلما كان لسان الواحد منها أعرض كان أفصح وأبين، وأحكى لما يلقن ولما يسمع، كنحو الببغاء والغداف وغراب البين، وما أشبه ذلك، وكالذي يتهيأ من أفواه السنانير إذا تجاوبت، من الحروف المقطعة المشاركة لمخارج حروف الناس. وأما الغنم فليس يمكنها أن تقول إلا «ما» . والميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه الأطفال، كقولهم: ماما، وبابا، لأنهما خارجان من عمل اللسان، وإنما يظهران بالتقاء الشفتين. وليس شيء من الحروف أدخل في باب النقص والعجز من فم الأهتم، من الفاء والسين إذا كانا في وسط الكلمة فأما الضاد فليست تخرج إلا من الشدق الأيمن، إلا أن يكون المتكلم أعسر يسرا، مثل عمر بن الخطاب رحمه الله، فإنه كان يخرج الضاد من أي شدقيه شاء. فأما الأيمن والأعسر والأضبط، فليس يمكنهم ذلك إلا بالاستكراه الشديد.
وكذلك الأنفاس مقسومة على المنخرين، فحالا يكون في الاسترواح ودفع البخار من الجوف من الشق الأيمن، وحالا يكون من الشق الأيسر، ولا يجتمعان على ذلك في وقت إلا أن يستكره ذلك مستكره، أو يتكلفه متكلف، فأما إذا ترك أنفاسه على سجيتها لم تكن إلا كما قالوا.
وقالوا: الدليل على أن من سقط جميع أسنانه أن عظم اللسان نافع له، قول كعب بن جعيل ليزيد بن معاوية، حين أمره بهجاء الأنصار، فقال له: