بهذا نصل إلى نهاية العمر الثاني للإنسان وبداية مرحلة الختام، أي: العمر الثالث له, ومن وصف رحلة الرشد في الفصول السابقة يتضح لنا كيف أن هذه الطور الهام من حياة الإنسان بدأت أصوله ونمت وتحسنت وترقت طوال العمر الأول "الطفولة والصبا والشباب", لقد كان هذ العمر الأول هو مرحلة بناء الأسس وتكوين الدعائم، ولهذا وصفه القرآن الكريم "بالضعف" ففيه الاعتماد شبه الدائم على الوالدين والمعلمين رعايةً لهذا النموِّ وتوجيهًا له.
وحالما يصل الإنسان إلى رشده، الذي هو في جوهره استقلال اقتصاديّ بالمعاش، واستقرار اجتماعي بالزواج وتكوين الأسرة، يكون قد بلغ ما يصفه القرآن الكريم "بالقوة", ويتوجه مزودًا بدفعه الذاتي نحو بلوغ الأشد, وهكذا يمضي الرشد كالصاروخ الذي حالما ينطلق لا يتوقف حتى يبلغ غايته.
إلّا أن حياة الإنسان ليست رشد "القوة" فقط، ولكنها أيضًا رشد الضعف", فحالما يبلغ الإنسان غايته من رشده حتى يتحوّل النمو إلى العمر الثالث للإنسان، وهو ما وصفه القرآن الكريم بالضعف، إلّا أنه ليس كضعف الطفولة والصبا والشباب الذي لا تواجه المعرفة والخبرة، ولكنه ضعف مزَّوَّدٌ برصيد هائل من تجارب العمر، ولهذا يصفه القرآن الكريم بالضعف المصحوب بالشيبة, والشيبة في هذا السياق القرآني لا تعني محض بياض الشعر "وهو المعنى اللغوي"، كما لا تعني العجز فحسب، وإنما تتضمن أيضًا معنى الحكمة التي توافرت للإنسان على مدى أكثر من ستين عامًا في حياته، وهذا ما سوف نتناوله في الباب التالي من هذا الكتاب.