بد عالم النفس السويسري جان بياجيه "١٨٩٦-١٩٨٠" نشاطه في علم النفس عام ١٩٢٠, وظلَّ معمله في جامعة جنيف من أنشط معامل علم النفس في العالم, ومع ذلك فقد اعتادت المؤلفات المتخصصة في علم النفس -ومعظمها أمريكي المنشأ- لا تشير إليه إلّا لمامًا، وظلَّ الأمر كذلك حتى بداية الستينات, حين نشر مكايفر هنت كتابه المشهور "الذكاء والخبرة" عام ١٩٦١، ثم صدر كتاب مؤلف عنه كتبه جون فلافل عام ١٩٦٣, فازداد الاهتمام ببحوثه ونتائجه ونظريته زيادةً منتظمة حتى وصل مقدار ما كُتِبَ عنه في السنوات الأخيرة من حياته أضعاف ما كُتِبَ عنه لأكثر من أربعين عامًا.
وقد نتج هذا التجاهل عن مصدرين من الخطأ أو سوء الفهم, أولهما جاء من علماء النفس التجريبيين الذين اعتبروا أدلته من النوع القصصي وليس من النوع الذي يعتمد على الملاحظة المنظمة, وقد يصدق هذا على بعض بحوث بياجيه المبكرة, إلّا أن بحوثه اللاحقة تتمثل فيها خصائص التجريب الدقيق, والخطأ الثاني جاء من رجال التربية الذين افترضوا أنه ما دام بياجيه قد كتب عن تفكير الأطفال, فإن نتائجه يجب أن تكون لها تطبيقات مباشرة وبسيطة في حجرة الدراسة, وقد لجأوا في ذلك إلى التبسيط المخلّ, مما أدى إلى كثير من سوم الفهم لنظرياته.
وقد تركز اهتمام بياجيه على النمو العقلي والمعرفي الذي يطرأ على الشخص خلال التحول من مرحلة الوليد الذي تصدر عنه الأفعال المنعكسة الصريحة البدائية غير المرتبطة، حتى مرحلة الرشد التي تتميز بالأفعال الماهرة. وقد أعطت نظريته -والأدلة التي تدعمها- بعض الإجابات على الأسئلة التي يثيرها المهتمون بسيكولوجية النمو حول منشأ السلوك المركب, ومما يلفت النظر في هذا النموذج النظري أن بياجيه لم يركز اهتمامه على ربط العمر الزمني بأنماط معينة من السلوك كما فعل جيزل وهافيجهرست، وإنما حدَّدَ لمدى الحياة المراحل الكبرى من النمو التي تتحدد في ضوء أنماط العمليات العقلية التي تتوافر للإنسان في هذه المراحل المختلفة, وتفيد هذه العمليات العقلية في القيام بدور المصفاة التي يفهم من خلالها الإنسان أحداث البيئة من حوله.
وكان بياجيه ملاحظًا عظيمًا لسلوك الإنسان, وقد بهرته طوال حياته تلك الحقيقة المذهلة أن نظرة الطفل للعالم ليست مجرد صيغة غير كاملة أو خاطئة من نظرة الكبار والراشدين إليه، وإنما لنظرة الطفل للعالم منطقها الخاصِّ بها, ومعنى ذلك وجود اختلافات كيفية بين الصغار والكبار في إدراك العالم, وقد كرَّسَ