ليس هينًا على الإنسان أن يقرر التقاعد؛ فكثيرٌ من المسنين يشعرون عند التقاعد بأنهم طردوا من أعمالهم لا لسبب إلّا لبلوغهم سن المعاش، وهذا ما يُسَمَّى التقاعد الإجباري, والذي يحدده سن البلوغ التقاعد "أو بلوغ المعاش" الرسمي, وحالما يتقاعد المرء فإنه ينسحب في الأغلب من سوق العمل؛ إما بسبب التمييز المهني الذي أشرنا إليه، أو بسبب شعور المسنين أن تقدمهم في السن لا يسمح لهم بالعمل، على الرغم من أنهم حين يسألون فإن أغلبيتهم تفضل أن تستمر في العمل لما بعد سن المعاش, وفي نفس الوقت هناك من يقررون التقاعد قبل بلوغ سن المعاش القانوني, ويُطلَقُ على هذا النوع "التقاعد الاختياري", وهؤلاء قد تكون لهم موارد مالية ملائمة, بالإضافة إلى ما توفره لهم خطط المعاش من موارد إضافية، وبعض من يفضلون التقاعد المبكر يقررون ذلك للحصول على الراحة أو لقضاء وقتٍ أطول مع الأسرة "وخاصة بالنسبة للزوجة العاملة", ومن المصريين من يفعل ذلك لأسباب جديدة طرأت حديثًا على المجتمع؛ فكثير من الذين خرجوا للعمل في البلدان العربية -وخاصة خلال حقبة النفط- قرروا التقاعد المبكر من أعمالهم الأصلية في مصر "والذي يُسَمَّى إداريًّا ضم مدة الخدمة" إيثارًا للبقاء في هذه الدول الغنية, ومعظم هؤلاء من المهنيين الأكفاء والحرفيين المهرة, وقد أدى ذلك إلى خلل كبير في بنية الثروة البشرية في مصر, وفي هذه الأحوال يلعب العامل الاقتصادي الدور الحاسم في التقاعد المبكر.
وقد ظهر خلال التسعينات ما يُسَمَّى "المعاش المبكر" مع تطور برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر, والذي يتوجه إلى تقليص حجم "القطاع العام", والتوجه مع سياسة التحرر الاقتصادي إلى تشجيع الاستثمارات الخاصة, ويقصد بالمعاش المبكر تشجيع العاملين بالقطاع الحكومي على ترك العمل مبكرًا مع تعويض مادي مناسب يمكن استثماره من خلال مساعدة الصندوق الاجتماعي للتنمية, وقد وضعت هذه السياسة لمواجهة مشكلة "العمالة الزائدة" والبطالة المقنعة، في القطاع العام خاصةً, والتي تُعَدُّ إحدى المشكلات المزمنة فيها منذ ظهوره في الستينات وأثرت في كفاءته وفعاليته.
وهكذا فإن العوامل التي تحدد قرار التقاعد المبكر معقدة متشابكة, فهي تشمل الظروف الصحية للراشد, وموقفه المالي, وطبيعة مهنته, ودرجة رضائه عن عمله, واتجاهاته نحو التقاعد, والظروف الاقتصادية للمجتمع الذي يعيش فيه؛ ففي دراسةٍ أجريت على عمال صناعة السيارات وجد الباحثون أن ضعف الصحة والدخل غير المناسب وعدم الرضا عن العمل والاتجاهات الإيجابية نحو التقاعد، كانت جميعًا العوامل التي أدت إلى التقاعد المبكر. وفي بعض الأعمال التي تلعب فيها المهارات الجسمية دورًا حاسمًا يكون التقاعد المبكر إجباريًّا، ومن ذلك المهن العسكرية "وخاصة في القوات المسلحة" التي يحال معظم أصحابها إلى الاستيداع قبل سن الخمسين "١٩٨٥ perlmutter & hall", ويلعب العامل الاقتصادي الدور الحاسم لدى أولئك الذين يتوقعون لدخلهم بعد المعاش أن يهيئ لهم حياة راضية،