حتى يمكن تناول مرحلة الرشد لا بُدَّ من اللجوء إلى بعض الحدود العملية التي تسمح لنا بتحديد نقطة البدء, ويمكن بالطبع أن نعتبر العمر القانوني للرشد من نوع هذه الحدود, صحيح أنه ليس محكًّا صارمًا جامدًا فاصلًا، وإنما هو من المرونة بحيث يسمح باستيعاب َمْن تتوافر فيه مؤشرات الرشد قبله أو بعده.
وعلى هذا, فإن الفترة من سن الرشد القانوني "٢١ عامًا" وحتى سن الأربعين تقريبًا, هي ما يصفه علماء النفس الارتقائيون بطور الرشد المبكر, وسوف نشير إليه بطور "بلوغ الرشد" التزامًا بالتعبير القرآني, وهو الطور الذي تحدث فيه أكبر عمليات التوافق في حياة الإنسان، وهذا ما يجعل له خصائص مميزة عن الأطوار والمراحل التي سبقته وتلك التي تليه.
ومع بلوغ سن الأربعين يكون المرء قد وصل إلى طور "بلوغ الأشد" -حسب التعبير القرآني الكريم- وبدأ طورًا جديدًا يسميه علماء النفس الارتقائيون أيضًا طور الرشد الأوسط, أو وسط العمر، والذي يمتد حتى سن الستين أو بعده بقليل, ومن الغريب أن هذه المرحلة هي الأقل استطلاعًا وبحثًا من بين جميع مراحل العمر، لأنه حتى عهد قريب لم تكن هناك إلّا مشكلات قليلة لا تتعدى حدود المشكلات الفسيولوجية المرتبطة بما يُسَمَّى التغيرات مدى الحياة, والتي بدت هامة لدرجة جذبت انتباه علماء النفس الذين شغلتهم على التوالي: الطفولة فالمراهقة, ثم ازداد الاهتمام بالشيخوخة في السنوات الأخيرة، ثم بمرحلة الرشد المبكر. أما طور بلوغ الأشد أو وسط العمر "الرشد الأوسط" فلا زالت أقل المراحل بحثًا، فلا يتوافر حولها قدر كافٍ من البحوث والمعلومات العلمية.
ومع تخطي الستين -وهي سن التقاعد الرسمي في معظم الأحوال- يدخل المرء في مرحلة الرشد المتأخر, والتي شمل الشيخوخة والهرم، وهي مرحلة الختام, والتي تمثل المرحلة الثالثة من حياة الإنسان, والتي سنخصص لها الباب التالي من هذا الكتاب.