الشيخوخة بالطبع ليست محض بلوغ عمر زمني معين, بل إن بلوغ الإنسان عمرًا زمنيًّا معينًا في أيِّ طورٍ من أطوار الحياة لا يعني بالضرورة حدوث جميع التغيرات البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية المصاحبة التي يفترض حدوثها في هذا الطور عند الجميع وفي وقت واحد, ولهذا كثيرًا ما نقرأ في التراث السيكولوجي المتخصص إشارات متعددة إلى العمر الاجتماعي والعمر السيكولوجي، ناهيك بالطبع عن العمر البيولوجي. وقد أكدت حقائق علم النفس النمو في مختلف أطوار الحياة أن الأفراد في نفس العمر الزمني يختلفون في هذه المحكات الأخرى، وينطبق هذا على الشيخوخة انطباقه على جميع أطوار الحياة الأخرى.
ولعل القارئ يتذكر أننا عند مناقشة مسألة "الرشد الإنساني" أشرنا إلى أن محض بلوغ المرء سن ٢١ عامًا لا يعني بالضرورة تحقيق الرشد، فقد يكون كلٌّ من المحك الاجتماعي والمحك السيكولوجي لديه متقدمًا أو متخلفًا, على الرغم من توافر المحك البيولوجي "وهو في حالة الرشد البلوغ الجنسي", فلماذا لا ينطبق على الشيخوخة نفس القول؟ فكما أن الرشد لا تحدده -من الوجهة السيكولوجية- حدود الزمن، ولو كان قانونيًّا، وإنما هو أكثر ارتباطًا بالاستقلال، فإن الشيخوخة لها نفس الطابع, فسن الستين ليس حدًّا فاصلًا بين القوة والضعف، العزيمة والوهن، التطور والتقهقر؛ لأن الشيخوخة السيكولوجية لا تتوازى بالضرورة مع التغيرات الجسمية التي تحدث في هذا السن ومابعده, فقد تحدث مبكرةً في الرشد المتأخر، وقد تتأخر كثيرًا فيه، ويتوقف هذا على مدى استثمار الفرد لإمكاناته السيكولوجية: معرفية ووجدانية واجتماعية، كما يتوقف أيضًا على نجاح الفرد في هذا الاستثمار طوال عمره كله: في شبابه وخلال سنوات نضجه ورشده، مما يؤدي به إلى استمرار الاستقلال، والرغبة المستمرة بل والمتزايدة في التعلُّمِ, وخاصةً التعلُّم الذاتي، واشتقاق الرضا والإشباع من الاستكشاف والاستطلاع والمعالجة والتقصي والبحث, التي ترتبط جميعًا بهذا التعلم، ثم تنوع الاهتمامات والميول, فإذا بدأ ذلك كله في التناقص والهبوط كان علامةً على بداية النهاية من الناحية السيكولوجية, ومعنى ذلك: أن المرء إذا بدأ في افتقاد استقلاله السيكولوجي, وتوجه نموه نحو الانتكاس وإلى الاعتماد من جديد، فهذا هو المؤشر على التحول السيكولوجي نحو الشيخوخة، ومع التقدُّمِ فيها "أي: الشيخوخة", يزداد الاعتماد الذي يصبح حينئذٍ علامةً بارزةً على التدهور، بل قد يظهر النكوص أو العودة إلى أنماطٍ مبكرة من السلوك, ومستوياتٍ أبسط من النشاط, ووراء ذلك كله عودة إلى الاعتماد الذي هو علامة "الضعف الثاني" الذي يشهده العمر الثالث، كما كان علامة "الضعف الأول" في مرحلة الطفولة والصبا والشباب "العمر الأول للإنسان", وصدق الله العظيم حين قال في كتابه العزيز:
وهكذا نقول: إنه إذا كان الاستقلال هو المحك السيكولوجي للرشد، فإن فقدان هذا الاستقلال والعودة إلى الاعتماد هو المحك السيكولوجي للهرم والعجز senility, ويصاحب هذا الاعتماد توقف عن التعلُّم -التعلم الذاتي بالطبع- مما يؤدي بالمرء