خامسًا: المقدمات الاجتماعية والثقافية لدراسة النمو الإنساني
لآراء الفلاسفة حول الطفل وتنشئته طرافتها بالطبع، ولكن وجه القصور فيها أنها لا تتخذ لنا الطريقة التي نحكم بها على صحتها، كما لا تتوافر عنها بيانات موضوعية تدعمها، والملاحظات القليلة التي توافرت من الخبرة الشخصية, أن الدراسة غير المنظمة للطفل لا تكفي؛ لأنها لا تصف لنا المنهج المستخدم في جمع هذه البيانات, وطرق التحقق من صحتها، وهذا هو جوهر العلم الحديث.
ومع ذلك, فإنه حالما أصبح الطفل موضوعًا للتأمل الفلسفي, أدّى ذلك في ذاته إلى تطور كبير, وقد شهد القرن التاسع عشر بالفعل اهتمامات عملية بالطفولة, تمثلت في إنشاء جماعات لحماية الطفل من القسوة في إنجلترا، وفرضت قيودًا على العمر الذي يسمح فيه للطفل بالعمل ونوع العمل وساعات عمله، كما انتشر التعليم في عدد من الأقطار الأوروبية، وجعل المرحلة الابتدائية إلزامية في بعضها "مثل فرنسا"، وتطوير أساليب تعليم الصغار, والاعتماد في ذلك على اللعب خاصة، والاعتراف بطب الأطفال, واعتباره تخصصًا طبيًّا جديرًا بالاحترام, وهذه الاهتمامات بالطفل لم تكن مجرد انعكاس لاهتمام الفلاسفة والمفكرين بالطفولة فحسب, وإنما كان مظهرًا من مظاهر التغير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي شهدته الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر, ومن ذلك ما شهدته تلك الفترة من تقدم طبي أدى إلى خفض نسب وفيات الرضع والأطفال, والزيادة النسبية في متوسطات الأعمار, وأدى ذلك بدوره إلى ضررة الاهتمام بطرفي دورة الحياة: الأطفال والمسنين.
وأدى التقدم العلمي إلى ثورات صناعية وتكنولوجية غيَّرت من الآراء السائدة حول الطفولة, وأدت إلى اكتشافات جديدة, وتهيئة فرص جديدة للعمل, وأثرت في بنية الأسر ودور المرأة، وساعدت على سيادة المشاعر القومية لدى الشعوب المرتبطة ثقافيًّا وجغرافيًّا, وبالطبع لم تكن جميع التغيرات التي شهدها القرن التاسع عشر موجبة, فقد ظهر الاستغلال للعمال الصناعيين، ونشأت حروب إقليمية عديدة، وبدأ عصر تلوث البيئة واستنزاف مواردها، وزادت ضراوة الغزو الاستعماري لإفريقيا وآسيا, مما أدى إلى وقوع معظم أقطار العالم العربي والإسلامي تحت وطأته, ومع ذلك, فإن كشف حساب القرن التاسع عشر كان لصالح قيمة الحياة الإنسانية والاعتراف بكرامة الإنسان, وكان لهذا أثره البالغ في الاهتمام بدراسة النمو الإنساني بطرق علمية عند نهاية القرن التاسع عشر, ونعرض فيما يلي بعض مقدمات هذا الاهتمام العلمي الذي تجاوز الكثير من كتابات الفلاسفة.