للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومرةً أخرى, فإن هذا المؤشر جزء من العالم الشخصي للإنسان، وهو وحده الذي يحدد ما إذا كان لا يزال يشعر بالرغبة في التبعية والاعتماد على الآخرين, أم أنه تحوَّل إلى الاستقلال بقراره.

إلّا أن استقلال الرشد لا يعني التفرد والأنانية؛ فالراشد قد يطلب مشورة الآخرين ويلجأ إلى مناقشتهم ومحاجاتهم, إلّا أنه في النهاية صاحب القول الفصل فيما يتصل بحياته من قرارات.

جـ الرغبة المستمرة في التعلم: من المؤشرات السيكولوجية للرشد الرغبة المستمرة -بل والمتزايدة- في التعلم، وخاصةً التعلم الذاتي الذي يتفق في جوهره مع مؤشر الاستقلال والمعالجة والتقصي والبحث, والتي ترتبط جميعًا بهذا النوع من التعلُّم، وتدل على تنوع الاهتمامات والميول، فإذا توقف الراشد عن التعلم كان هذا علامة النهاية من الناحية السيكولوجية.

وقد أشار القرآن الكريم إشارةً صريحةً إلى أهمية التعلم في حياة الراشدين, يقول الله تعالى في وصفه لمرحلة الشيخوخة المتأخرة: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ... } [الحج: ٥] .

وإذا كان فقدان القدرة على التعلُّمِ هو المحك القرآني الرئيسي للشيخوخة المتأخرة "الهرم أو أرذل العمر", فإن توافُرِ هذه القدرة واستمرارها في مراحل العمر السابقة على هذا التدهور في حياة الإنسان مؤشر على استمرار الرشد الإنساني.

وإذا كان الاستقلال الذي أشرنا إليه محكًّا لتحديد الرشد هو في جوهره نتاجٌ للتعلم الاجتماعي, يصبح التعلُّم حينئذٍ هو جوهر حياة الراشدين بدءًا وانتهاءً، صحيحٌ أن لكلٍّ من البداية والنهاية حدوده التشريحية والفسيولوجية والنيرولوجية، بل والقانونية، إلّا أن الرشد السيكولوجي لا يتحدد إلّا بشغفٍ إلى مزيدٍ من التعلُّم عند الاستقلال، ثم توقُّفٌ عن التعلم عند العجز والهرم، بل نكاد نقول: إن التوقف عن التعلم هو اللحد السيكولوجي للإنسان, حتى ولو عاش من بعده أعمارًا وأعمار.

<<  <   >  >>