وأدق تعبير عن هذا التدهور الارتدادي الانتكاسي على أنه انهيار كمِّي وكيفي الإشارة القرآنية الكريمة إلى أن المسن في هذا الطور يصبح، لا يعلم من بعد علم شيئًا؛ ففقدان القدرة على التعليم تدهور كيفي خطير يرد صاحبه مرة أخرى إلى الاعتماد الكامل الذي اتسمت به المراحل المبكرة من حياته حين كان عجزه عن التعلم -وهو طفل- مؤشر ذلك, ومع أن الطفل والهرم عاجزان عن التعلم, فإن الطفل يتقدم بالتعلم والاكتساب سعيًا إلى الاستقلال والقدرة "الرشد"، أما الهرم, فإن كل يوم يضاف إلى رصيد حياته يرتَدُّ به إلى مزيدٍ من الفقدان لما تعلَّم واختزن من قبل، مع عجز عن اكتساب أي جديد.
وبالطبع فإن هذه التغيرات الانتكاسية الكيفية لا تظهر في سنٍّ معينةٍ من الشيخوخة كما بينا, إلّا أن من المتوقع أن تظهر بعض هذه العلامات مع التقدم فيها بدرجات متفاوتة من الحدة، وبالطبع فإن القدر القليل منها يجعل صاحبه في فئة الهرم العادي normal senility, أما إذا اشتد التدهور فإنه حينئذ يصبح من نوع الهرم المرضي pathological senility.
والرشد -عند فقهاء المسلمين- هو المستوى النمائي الذي عنده يستقل المرء بتصرفاته، وقبله يكون الصغير تحت وصاية والديه لعدم توافر أهلية التصرف، وتفيض مؤلفات الفقه الإسلامي بالتفاصيل حول الحجر على تصرفات الصغير، والحجر في الشريعة معناه: منع الإنسان من التصرف في ماله، وقد أشرنا من قبل إلى أن القدرة على التصرف في المال خاصةً هي المؤئر الاجتماعي الرئيسي على الرشد في الإسلام، ويدعم قولنا مايذكره أحد فقهائنا المعاصرين "وهبة الزحيلي: ١٩٨٤" حول اختبار الولي لرشد الصبي بقول:
"أما اختباره "أي: الصبي" في المال فبحسب أمثاله، فيختبر ولد التاجر بالبيع والشراء والمماكسة فيهما, أي: طلب النقصان عما طلبه البائع، وطلب الزيادة على ما يبذله المشتري، ويختبر ولد الزارع بالزارعة، والنفقة على العمال فيها، ويختبر المحترف بما يتعلق بحرفة أبيه أو أقاربه، وتختبر المرأة بالغزل والقطن حفظًا وحياكةً وغيرها، ويشترط تكرار الاختبار مرتين أو أكثر قبل البلوغ وقيل بعده".
وبالطبع فإن هذه أمثلة على وسائل اختبار الرشد تتفق مع السياق الثقافي والحضاري والتاريخي الذي وضعها فيه الفقهاء، ويمكن تطويرها مع وسائل العصر, ومنها الأدوات والفنيات التي يستخدمها علم النفس.