أبو إسحاق الهروي قال: كنت مع ابن الخروطي بالبصرة فأخذ بيدي وقال: قم حتى نخرج إلى الأبلة، فلما قربنا ونحن نمشي على شاطئ الأبلة في الليل والقمر طالع، إذ مررنا بقصر لجندي فيه جارية تضرب بالعود، فوقفنا في فناء القصر نستمع وفي جانب القصر الآخر في ظل القمر فقير بخرقتين واقف، فقالت الجارية:
كل يوم تتلون ... غير هذا بك أجمل
فصاح الفقير وقال: أعيديه فهذا حالي مع الله تعالى، فنظر صاحب الجارية إلى الفقير فقال لها: اتركي العود وأقبلي عليه فإنه صوفي فأخذت تقول، والفقير يقول: هذا حالي مع الله تعالى، والجارية تردد إلى أن زعق الفقير زعقة خر مغشياً عليه فحركناه فإذا هو ميت فقلنا: مات الفقير.
فلما سمع صاحب القصر بموته نزل فأدخله القصر فاغتممنا وقلنا: هذا يكفنه من غير وجهه، فصعد الجندي وكسر كل ما كان بين يديه فقلنا: ما بعد هذا إلا خير ومضينا إلى الأبلة وبتنا وعرفنا الناس.
فلما أصبحنا رجعنا إلى القصر وإذا الناس مقبلون من كل وجه إلى الجنازة كأنما نودي في البصرة حتى خرج القضاة والعدول وغيرهم، وإذا الجندي يمشي خلف الجنازة حافياً حاسراً حتى دفن.
فلما هم الناس بالانصراف قال الجندي للقاضي والشهود: اشهدوا أن كل جارية لي حرة لوجه الله تعالى وكل ضياعي وعقاري حبس في سبيل الله وفي صندوق لي أربعة آلاف دينار وهي في سبيل الله.
ثم نزع الثوب الذي كان عليه فرمى به وبقي بسراويله، فقال القاضي: عندي مئزران من وجههما تقبلهما فقال: شأنك. فحملهما إليه فاتزر بواحد واتشح بالآخر، وهام على وجهه فكان بكاء الناس عليه أكثر من بكائهم على الميت.