[ومن عقلاء المجانين ببيت المقدس]
٧٨١ - شاب
بلغنا عن أبي الجوال المغربي قال: كنت ببيت المقدس جالساً مع رجل صالح وإذا قد طلع علينا شاب والصبيان حوله يقذفونه بالحجارة ويقولون: مجنون فدخل المسجد وهو ينادي اللهم أرحني من هذه الدار. فقلت له: هذا كلام حكيم فمن أين لك هذه الحكمة؟ فقال: من أخلص له في الخدمة أورثه طرائف الحكمة وأيده بأسباب العصمة، وليس بي جنون وولق؛ بل قلق وفرق. ثم جعل يقول:
هجرت الورى في حب من جاد بالنعم ... وعفت الكرى شوقاً إليه فلم أنم
وموهت دهري بالجنون عن الورى ... لأكتم ما بي من هواه فما انكتم
فلما رأيت الشوق والحب بائحاً ... كشفت قناعي ثم قلت: نعم نعم
فإن قيل: مجنون فقد جنني الهوى ... وإن قيل: مسقام فما بي من سقم
وحق الهوى والحب والعهد بيننا ... وحرمة روح الأنس في حندس الظلم
لقد لامني الواشون فيك جهالة ... فقلت لطرفي أفصح العذر فاحتشم
فعاتبهم طرفي بغير تكلم ... وأخبرهم أن الهوى يورث السقم
فبالحلم يا ذا المن لا تبعدنني ... وقرب مزاري منك يا بارئ النسم
فقلت له: أحسنت لقد غلظ من سماك مجنوناً، فنظر إلي وبكى وقال: أولا تسألني عن القوم كيف وصلوا فاتصلوا؟ فقلت: بلى أخبرني؟ فقال: طهروا له الأخلاق، ورضوا منه بيسير الأرزاق، وهاموا من محبته في الآفاق، وائتزروا بالصدق، وارتدوا بالإشفاق، وباعوا العاجل الفاني بالآجل الباقي، وركضوا في ميدان السباق، وشمروا تشمير الجهابذة الحذاق، حتى اتصلوا بالواحد الرزاق، فشردهم في الشواهق وغيبهم عن الخلائق، لا تؤويهم دار ولا يقرهم قرار، فالنظر إليهم اعتبار، ومحبتهم افتخار، وهم صفوة الأبرار، ورهبان أخيار، مدحهم الجبار ووصفهم النبي المختار، إن حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن ماتوا لم يشهدوا. ثم أنشأ يقول:
كن من جميع الخلق مستوحشاً ... من الورى تسري إلى الحق
واصبر فبالصبر تنال المنى ... وارض بما يجري من الرزق
واحذر من النطق وآفاته ... فآفة المؤمن في النطق