أبو عبد الرحمن المغازلي قال: قال رجل ببلاد الشام في بعض تلك السواحل: لو بكى العابدون على الإشفاق حتى لم يبق في أجسادهم جارحة إلا أدت ما فيها من الدم والودك دموعاً جارية، وبقيت الأبدان يبساً خالية تتردد فيها الأرواح إشفاقاً ووجلاً من يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت. لكانوا محقوقين بذلك. ثم غشي عليه.
٩٠٥ - عابد آخر
إسرافيل قال: سمعت ذا النون يقول: سمعت بعض المتعبدين بساحل بحر الشام يقول: إن لله تعالى عباداً عرفوه بيقين من معرفته فشمروا وقصدوا إليه، احتملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب، صحبوا الدنيا بالأشجان، وتنعموا فيها بطول الأحزان، فما نظروا إليها بعين راغب، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب، خافوا البيات فأسرعوا، ورجوا النجاة فأزمعوا، بذلوا مهج أنفسهم في رضا سيدهم، نصبوا الآخرة نصب أعينهم، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم، فلو رأيتهم رأيت قوماً ذبلاً شفاههم، خمصاً بطونهم، حزينة قلوبهم، ناحلة أجسامهم، باكية أعينهم، لم يصحبهم التعليل والتسويف وقنعوا من الدنيا بقوات طفيف، لبسوا من اللباس أطماراً بالية، وسكنوا من البلاد قفراً خالية، وهربوا من الأوطان، واستبدلوا الوحدة من الأخدان، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب، خمصاً لطول السرى، شعثاً لفقد الكرى، قد وصلوا الكلال بالكلال، وتأهبوا للنقلة والارتحال.
٩٠٦ - عابد آخر
محمد بن إبراهيم الأخرم قال: خرجت من مصر وأنا على ساحل البحر، فرأيت امرأة خرجت من برية. فقلت: إلى أين يا أمة الله؟ قالت: إلى صومعة ها هنا لي فيها ابن، فمشيت معها فسمعت صوتاً من صومعة يقول:
ومشتاق وليس له قرار ... نفور ليس يملكه العذار
ومؤنس قلبه ليل طويل ... يلذ به ويوحشه النهار
قضى وطراً به فأفاد علماً ... فنهمته التعبد والفرار
ألا صبراً على دنياك صبراً ... فكل أمورها فيها اعتبار
فقلت لها: منذ كم صار ابنك ها هنا؟ قالت: منذ وهبته منه وقبله مني.