للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معاذ بن زياد قال: لما اتخذت عبادان سكنها قوم نساك فيهم رجل يقال له بهيم وكان رجلاً حزيناً يزفر الزفرة فتسمع زفيره.

مخول قال: جاءني بهيم يوماً فقال لي: تعلم لي رجلاً من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرفقني؟ قلت: نعم. فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين فجمعت بينهما وتواطيا على المرافقة. ثم انطلق بهيم إلى أهله، فلما كان بعد أتاني الرجل فقال: يا هذا أحب أن تزوي عني صاحبك وتطلب رفيقاً غيري. فقلت: ويحك فلم؟ فوالله ما أعلم في الكوفة له نظيراً في حسن الخلق والاحتمال، ولقد ركبت معه البحر فلم أر إلا خيراً. قال: ويحك حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا العيش سفرنا كله. قال: قلت: ويحك إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكرة يرق القلب فيبكي الرجل، أو ما تبكي أنت أحياناً؟ قال: بلى ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جداً من كثرة بكائه. قال: قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به. قال: أستخير الله.

فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه جيء بالإبل ووطئ لهما فجلس بهيم في ظل حائط فوضع يده تحت لحيته وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته ثم على صدره حتى والله رأيت دموعه على الأرض.

قال: فقال لي صاحبي: يا مخول قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق. قال: قلت: ارفق، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم فرق. وسمعها بهيم فقال: يا أخي والله ما هو بذاك وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة. قال: وعلا صوته بالنحيب.

قال: يقول لي صاحبي: والله ما هي بأول عداوتك لي وبغضك إياي، ما لي ولبهيم؟ إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين داود الطائي وسلام بن الأحوص، حتى يبكي بعضهم إلى بعض حتى يشتفوا أو يموتوا جميعاً.

قال: فلم أزل أرفق به وأقول: ويحك لعلها خير سفرة سافرتها.

قال: وكان طويل الحج رجلاً صالحاً إلا أنه كان رجلاً تاجراً موسراً مقبلاً على شأنه، لم يكن صاحب حزن ولا بكاء، قال: فقال لي: قد وقعت مرتي هذه ولعلها أن تكون خيرة.

قال: وكل هذا الكلام لا يعلم به بعين ولو علم بشيء منه ما صاحبه.

قال: فخرجا جميعاً حتى حجا ورجعا. ما يرى كل واحد منهما أن له أخاً غير صاحبه. فلما جئت أسلم على جاري

<<  <  ج: ص:  >  >>