مقعد نبيل، وحوله أكثر متأدبي بغداذ، يجري بينهم المثلُ والتمثل والكلام في المعاني، فسلَّمتُ وجلستُ حيث انتهى بي المجلس، وأنا في هيئة السَّفرِ، فلما كاد المجلس أن ينقضي قال لي: مَن الرجلُ؟ قلت: باغي أدب. قال: أهلًا وسهلًا، مِن أين تكونُ؟ قلتُ: من المغرب الأقصى. وانتسبتُ له إلى قرطبةَ. فقال لي: دارُ القومِ؟ قلتُ: نعم. قال لي: أتروي من شعر أبي المخشي شيئًا الذي قاله عندكم؟ قلتُ له: نعم. قال: فأنشدني. فأنشدته شعره في العمى، فلما بلغتُ:
كنت أبا للدرى إلَّا الدُّرا ... مافقأتْ عينيَّ إلَّا الدُّنا
قال: هذا الذي طلبتْه الشعراءُ فأضَلَّتْه. ثم قال: أنشدني لأبي الأجرب. فأنشدته، ثم قال: أنشدني لبكرٍ الكناني. فأنشدته، قال: شاعرُ البلدِ اليومَ عباسُ بنُ ناصحٍ؟ قلتُ: نعم. قال: فأنشدني له. فأنشدته:
* فأدتُ القريضَ ومَن ذا فأد *
قال لي: أنت عباسٌ؟ قلتُ: نعم. فنهض إليَّ فتلقَّيتُه، فاعتنقني إلى نفسه، وانحرف لي عن مجلسه، فقال له مَن حضر المجلسَ: مِن أين عرفتَه -أصلحك الله- في قسيم بيت؟ قال: إني تأملتُه عند إنشاده لغيره، فرأيتُه لا يبالي ما حدث في الشعر من استحسان أو استقباح، فلما أنشدني لنفسه استبنتُ عليه وَجْمةً، فقلتُ: إنَّه صاحبُ الشعرِ. قال عباسٌ: ثم أتممتُ الشعرَ، فقال: هذا شعر الغَربِ. ثم نقلني إلى نفسه، فكنتُ في ضيافته عامًا، ثم قدمَ عباسٌ الأندلسَ، فتكرر على الحكم بن هشام بالمديح، ثم تعرض للخدمة، فاستقضاه على الجزيرة.