عبد الرحمن، فأخبرني أبو الفرج الفتي -وكان من خيار فتيانهم- قال: كان ذلك الكتاب يتلاهى به في القصر، حتى إن بعض الجواري كان يقول لبعض: صيَّر الله عقلك كعقل الذي ملأ كتابه من "ممَا، ممَّا"؛ فبلغ الخبر ابن فرناس، فرفع إلى الأمير يسأله إخراج الكتاب إليه، ففعل فأدرك منه علم العروض، وقال: هذا كتاب قبله ما يفسره. فوجه به الأمير إلى المشرق في ذلك، فأتى بكتاب الفرش، فوصله بثلاثمئة دينار وكساه. وكان مع ذلك يحسن علم الموسيقى، ويضرب العود، ويغني عليه.
وذكر قاسم بن وليد الكلبي وغيره من شيوخ أهل شَذُونة، قال: كان محمود بن أبي جميل عندنا غلامًا جوادًا، وكان عاملًا في أخريات أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فعمل قبة أدم بلغت النفقة فيها وفي وطائها خمسمئة دينار، فلما كملت ضربها على وادي لكة، وصنع صنيعًا جمع له أشراف الكورة، ووافق ذلك اطلاع عبد الملك بن جهور أو يوسف بن بخت ضياعه بشذونة، فاستجلبه محمود مع بياض الكورة، فشهد وشهدوا. فلما تقضى طعامهم، وصاروا إلى المؤانسة وعندهم أحد بني زرياب المغني، طلع عليهم عباس بن فرناس زائرًا لمحمود، فقام محمود إليه والتزمه، وسُرَّ جميعهم بوروده، ثم عرض عليه الطعام فطعم، ثم صار إلى المؤانسة، ودفع ابن زرياب يغني:
ولو لم يَشُقني الظَّاعِنون لشَاقَني ... حَمَامٌ تداعَتْ في الدِّيَار وُقوعُ
تَدَاعَيْنَ فَاسْتَبْكَيْنَ مَن كانَ ذا هوًى ... نوائحُ ما تجري لهنَّ دُموعُ
فاستعادوه الصوت إعجابًا، فأعاده. فلما تقضَّى غناءُ ابن زرياب مدَّ عباسٌ يده إلى العود، وغنَّى البيتينِ، ووصلهما من عنده بديهة، فقال: