يكن أحدٌ من أهل زمانه يتقدمه في علمه ونظره، وأنجب على يديه جملة من المؤدبين والشعراء والكتاب، وكان بكيَّ اللفظ، عيًّا بالمخاطبات، ثقيلًا في إملاء النحو، فإذا أخذ في إثارة المعاني اللطيفة، والمسائل الدقيقة لم يتعاطه أحد من أهل زمانه في ذلك، بل كان ألحظهم في الفهم عنه، والتلقن لما يورد. وأخذ عن محمد بن الغازي ما جلبه من الأشعار المشروحة رواية عنه، وسماعًا عليه، ولم يكن له في قرض الشعر كبير حظ، ولا رُوِي له في ذلك غير ما أذكره الآن له.
أخبرنا بعض المتأدبين أن محمد بن يحيى القلفاط بات عنده ليلة، فسَهِرا صدرَ ليلتِهما، ثمَّ ناما بقيَّتَها حتى تبلَّجَ الصُّبحُ، وكادت الشمسُ تطلُع عليهما، فانتبه القلفاطُ فقال للحكيم:
يا ديكُ ما لكَ لم تَصْرُخْ فتنبِهَنا ... لقد أسأتَ بنا، ديكَ الدَّجاجاتِ
يا آكلًا للقَذَى يا سَالِحًا عَبَثًا ... على الحَصير بَهيميَّ البَهيماتِ
لكن علمتُك نوَّامًا وذا كسلٍ ... قليلَ ذكرٍ لجبَّارِ السَّماواتِ
وأنشدني بعضهم له:
سَلْ تَقِيًّا باللهِ يابنَ تقيِّ ... هل ترى قتلَ مُستهامٍ شجيّ
كُلَّما جنَّ ليلُهُ بات يَرْعَى ... أنجمًا هائمًا بطرفٍ خفيّ
يا سَمِيَّ النَّبيِّ حسبُكَ ما بي ... لا تزدْني جوًى بحقِّ النَّبيِّ
قال محمد: شدَّد الحكيمُ ياءَ "شجيّ"، وهو جائزٌ، وإن كان علماء النحو قد حظروا ذلك، وزعموا أنَّ الياءَ من "الشجي" مخففة، ومن "الخلي" مثقلة، والقياس ما ذكرنا، قد جاء بالتشديد لأبي دواد الإيادي: