فقال يحيى بن علي: احتججتُ بالقرآن فلم يُقْبَل مِنِّي، واحتج خَصْمي بقول زُهَيرٍ فقُبِل قوله. فقلتُ له: ففي القرآن شاهدٌ أَبْينُ من شاهدِك. فقال: وما هو؟ فقلتُ:{لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنَّ خيرًا منهنَّ}. فقال: نعم.
أخبرني إسماعيل من حفظه قال: لما قُتِل المتوكل بسُرَّ مَن رأى رَحَل المبرّد إلى بغداذَ، فقدِم بلدًا لا عهد له بأهله، فاخْتَلَّ، وأدركتْه الحاجةُ، فتوخَّى شهودَ صلاة الجمعة، فلما قُضِيتِ الصلاة أقبل على بعض مَن حَضَره، وسأله أن يُفاتِحه السُّؤال؛ لِيتسبَّب له القولُ، فلم يكن عند مَن حضره علمٌ. فلمَّا رأى ذلك رفع صوته، وطفِق يفسِّر، يُوهم بذلك أنه قد سُئِل، فصارت حوله حَلْقة، وأبو العباس يَصِلُ في ذلك كلامَه.
فتشوَّف أبو العباس أحمد بن يحيى إلى الحلْقة، وكان كثيرًا ما يرِدُ الجامعَ قومٌ خراسانيون من ذَوِي النظر، فيتكلَّمون ويجتمع الناسُ حولَهم، فإذا بَصُر بهم ثعلب، أرسل من تلاميذه مَن يُفاتِشُهم، فإذا انقطعوا عن الجواب انفضَّ الناس عنهم. فلما نظر ثعلب إلى مَن حول أبي العباس أمرَ إبراهيم بن السَّرِيَّ الزَّجَّاج وابنَ الحائك بالنهوض، وقال لهما: فُضَّا حَلْقة هذا الرجل. ونَهَضَ معَهما مَن حضر من أصحابه، فلما صارا بين يديه قال له إبراهيم بن السري: أتأذنُ -أعزَّك الله- في المفاتَشة؟ فقال له أبو العباس: سَلْ عما أحببتَ. فسأله عن مسألةٍ، فأجابه فيها بجوابٍ أقنعه. فنظر الزَّجَّاج في وجوهِ أصحابه مُتعجِّبًا من تجويد أبي العباس للجواب. فلما انقضى ذلك قال له أبو العباس: أقنِعْت بالجواب؟ فقال: نعم. قال: فإن قال لك قائل في جوابنا هذا كذا، ما أنت راجع إليه؟ وجعل أبو العباس يُوهِنُ جوابَ المسألة، ويُفسِده، ويَعْتَلُّ فيه. فبقي إبراهيم سَادِرًا لا يُحِير جوابًا. ثم قال: إن رأى الشيخُ -أعزَّه الله- أن يقولَ في ذلك؟ فقال أبو العباس: فإنَّ القولَ على نحو كذا، فصحَّح الجواب الأول، وأوْهن ما كان أفْسده به، فبقي الزَّجَّاجُ مَبْهُوتًا، ثم قال في نفسه: قد يجوزُ أن يتقدَّم له حفظُ هذه المسألة