للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجلية، وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها، ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليتها .. استدلالًا بصنعة (ليس كمثلها شيء) على صانع ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١].

* * *

٦ - فإن كان السائل من طلاب الحق كما وصفنا، وانتهى من بحثه إلى حيث أشرنا، فأبصر وسمع، وقايس ووازن، وذاق ووجد، فسوف يتقدم إلينا بكلمته الأخيرة قائلًا: نعم نثلتُ (١) كنانة الكلام بين يدي، وعجمتُ (٢) سهامها فما وجدت كالقرآن أصلب عودًا، ولقد وردت مناهل القول وتذوقت طعومها فما وجدت كالقرآن أعذب موردًا، والآن آمنت أنه كما وصفتموه نسيج وحده، وأنه يعلو وما يُعْلَى، وأنه يحطم ما تحته، غير أنني وقد أدركت من قوة الأسلوب القرآني وحلاوته ما أدركت - لم يزل الذي أحس به من ذلك معنى يتجمجم (٣) في الصدر لا أحسن تفسيره ولا أملك تعليله، وما زالت النفس بعد هذا وذاك نزاعة إلى درس تلك الخصائص والمزايا التي استأثر القرآن بها عن سائر الكلام، وكان فيها سر إعجازه اللغوي.

فهل من سبيل إلى عرض شيء من ذلك علينا لتطمئن به قلوبنا، ونزداد إيمانًا إلى إيماننا؟

نقول: أما الآن فقد والله طلبت منَّا جسيمًا، وكلَّفتنا مرامًا بعيدًا لمثله انتدب العلماء والأدباء من قبلنا وفي عصرنا، فحفيت من دونه أقلامهم، ولم يزيدوا إلا أن ضربوا له الأمثال، واعترفوا بأن ما خفي عليهم منه أكثر مما فطنوا


(١) «نثَلتُ البئرَ نَثْلاً وانْتَثلْتُها، إذا استخرجتَ ترابَها»، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: (٥/ ١٨٢٥). (عمرو)
(٢) العَجْمُ: العض، «وقد عجمت العود أعجمُه بالضم، إذا عضضته لتعلمَ صلابتَه من خَوَره .. وعَجَمْتُ عودَه، أي بلوتُ أمره وخبرتُ حاله»، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: (٥/ ١٩٨١). (عمرو)
(٣) «جَمجَمَ شَيْئا فِي صَدرِه: إِذا أَخفاهُ وَلم يُبدِه»، تاج العروس: (٣١/ ٤٢٥). (عمرو)

<<  <   >  >>