للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ابن العميد بأسلوب الجاحظ، وكما يصنع الكتاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض.

وما أساليب الناسِ على اختلافِ طرائقها في النثر والشعر إلا مناهل مورودة، ومسالك معبَّدة، تؤخذ بالتعلُّم، وتُرَاضُ الألسِنَة والأقلامُ عليها بالمِرَانة، كسائر الصناعات.

فما الذي منع النَّاس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتِهم وأقلامِهم وهم شرع في استحسان طريقته، وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته؟

ما ذاك إلا أنَّ فيه منعة طبيعية كفَّت ولا تزال تكفُّ أيديهم عنه، ولا ريب أن أول ما تلاقيك هذه المناعة فيما صوَّرناه لك من غريب تأليفه في بنيته، وما اتخذه في رصف حروفه وكلماته، وجمله وآياته، من نظام له سمت وحده، وطابع خاص به، خرج فيه عن هيئة كل نظمٍ تعاطاه الناس أو يتعاطونه.

فلا جرم لم يجدوا له مثالًا يحاذونه به، ولا سبيلًا يسلكونه إلى تذليل منهجه، وآية ذلك أن أحدًا لو حاول أن يدخل عليه شيئًا من كلام الناس من السابقين منهم أو اللاحقين، من الحكماء أو البلغاء أو النبيين والمرسلين، لأفسد بذلك مزاجه في فَمِ كل قارئ ولجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع، وإذًا لنادى الداخل على نفسه بأنه واغلٌ دخيلٌ، ولنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث الحديد ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤١].

* * * * *

فإذا أنت لم يلهِكَ جمالُ العطاء عما تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السرِّ المصون، بل فَليتَ القشرة عن لبها، وكشفت الصدفة عن درها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي، تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيك منه ما هو أروع وأبدع.

لا نريد أن نحدثك ها هنا عن معاني القرآن وما حوته من العلوم الخارجة عن متناول البشر، فإنَّ لهذا الحديث موضعًا يجيء - إن شاء الله تعالى - في بحث

<<  <   >  >>