فكانوا إذا رأوا عَرَضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا وبرقت لهم (بروق) الأمل في الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنبًا إلى جنب، وإذا دارت رحى الحرب وانقضت (صواعقها) منذرة بالموت والهزيمة أخذوا حذرهم وفروا من وجه العدو قائلين: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ [الأحزاب: ١٣]، أو رجعوا من بعض الطريق قائلين: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٧]، حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة ولم يتوقعوا من الآلام صاعقة بل اشتبهت عليهم الأمور وتلبد الجو بالغيوم، فهنالك يقفون متربصين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولكن يلزمون شِقةَ الحياد ريثما تنقشعُ سحابة الشك ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: ١٤١]، ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٧٢ - ٧٣].
ذلك أبدًا دأب المنافقين في كل أمرهم؛ إن توقعوا ربحًا عاجلًا التمسوه في أي صف وجدوه، وإن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التي ينالهم في سبيلها شيء من المكروه، وإذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيدًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
أما الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإنَّ له قبلة واحدة يولي وجهه شطرها، هي قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم.
وليس يبالي حين يُقتل مسلمًا … على أي جنب كان في الله مصرعه
* * * * *
[خلاصة المقدمة] هنا تمت المقدمة بعد أن وصفت القرآن بما هو أهله، ووصفت متبعيه ومخالفيه كلًّا بما يستحقه.
ولا مرية أن وصف هذه الطوائف جميعها راجع في المآل إلى الثناء على القرآن؛ فإن الشيء الذي يكون متبعوه هم أهل الهدى والفلاح، ومخالفوه هم أهل الضلالة والخسر لا يكون إلا حقًّا واضحًا لا ريب فيه.