فما هو ذلك الحق الذي لا يتبعه إلا مهتد مفلح، ولا يعرض عنه إلا ضال خاسر؟ بل ما هو ذلك الحق الذي ضربت له الأمثال بالضياء الباهر والغيث الكثير؟
لا شك أن هذا كله تشويق أي تشويق لسماع الحقائق التي يدعو القرآن الناس إليها، فانظر على أي نحو ساق بيانها.
لقد كان ظاهر السياق يقضي بأن يقال: إن هذه الحقائق هي أن يعبدوا ربهم وحده ويؤمنوا بكتابه ونبيه (الخ) جريًا على أسلوب الغيبة الذي جرى عليه في وصف الكتاب، وفي وصف الناس، ولكنه حوَّل مجرى الحديث من الأخبار والغيبة إلى النداء والمخاطبة قائلًا: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١].
أتعرف شيئًا من سر هذا التحويل؟
إنَّ ذلك الوصف الدقيق الذي وصف القرآن به الطوائف الثلاث:(متقين، وكافرين، ومخادعين) قد نقلهم عند السامع من حال إلى حال، فبعد أن كانوا غُيَّبًا في مبدأ الحديث عنهم أصبحوا الآن بعد ذلك الوصف الشافي حاضرين في خيال السامع كأنهم رأي عين، وفي مكان ينادون منه، فاستحقوا أن يوجه الحديث إليهم كما يوجه إلى الحاضرين في الحس والمشاهدة، هذا من الناحية العامة.
وأمَّا من الناحية الأخرى فإن هذه الأمثال البليغة التي ضربت في شأن المعرضين خاصَّة قد أبرزتهم أمام السامع في صورة محزنة تبعث في نفسه أقوى البواعث لنصحهم وتحذيرهم، حتى إنه لا يشفي صدره إلا أن يناديهم أو يسمع من يناديهم: أن افتحوا أعينكم أيها القوم وتعالوا إلى طريق النجاة. وهكذا استعدت النفس أتم استعداد لسماع هذا النداء، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] الآيات إلى آخر المقصد الأول.