القبلة الوسطى التي تليق بكم أيتها الأمة الوسطى، وهي القبلة التي ترضاها يا أيها النبي والتي طالما قلبت وجهك في السماء مستشرفًا إلى الوحي بها، وهي القبلة التي يعلم أهل الكتاب أنها الحق من ربهم، وإن كان يكتمون ذلك حسدًا وعنادًا، وهي القبلة التي يشهد الله بأنها الحق من عنده، وأخيرًا هي القبلة التي لا يبقى لأحد من المنصفين حجة عليكم. أما الظالمون فلن ينقطع جدالهم في شأنها ما بقيت عداوتهم لكم، ولكن لا تخشوهم، بل وطنوا أنفسكم على التضحية في سبيل الله، واصبروا ولا تحزنوا على من سيقتل منكم في هذه السبيل؛ فإن الموت فيها هو الحياة الباقية.
ثم أومأ إلى أن الجدال في هذه القبلة ليس صدًّا عن الشعائر التي في داخل المسجد الحرام فحسب، بل هو كذلك صد عما حوله من الشعائر: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ [البقرة: ١٥٨].
ثم أكد أمر هاتين الشعيرتين على نحو ما أكد أمر القبلة بالتعريض بأهل الكتاب الذين يعلمون أصلهما في تاريخ إبراهيم، ولكنهم يكتمون ما أنزله الله من البينات وهم يعلمون.
أرأيت هذه المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل كيف رتبها مرحلة مرحلة، وكيف سار في كل مرحلة منها خطوة خطوة.
فارجع البصر كرة أخرى إلى هذه المرحلة الأخيرة منها، لتنظر كيف استخدم موقعها هذا لتحقيق غرضين مختلفين، وجعلها حلقة اتصال بين مقصدين مُتنائِيين، فهي في جملتها مناجاة من الله للنبي والمؤمنين في خاصَّة شأنهم وفيما يعنيهم من أمر دينهم، ولكنه جعل لهذه النجوى طرفين، لوَّن كل طرف منها بلون المقصد الذي يتصل به، فالتقى المقصدان فيها على أمر قد قدر.
ألم تر كيف بدأها بأن قص على المؤمنين مقالة أعدائهم في بعض حقائق الإسلام، وعمد إلى هذه الحقائق التي تماروا فيها، فجعل يمسح غبار الشبهة عن وجهها حتى جلاها بيضاء للناظرين، فكانت هذه البداية كما ترى نهاية لتلك المعارك الطويلة التي حورب فيها الباطل في كل ميدان.