(٢) وهكذا قال الله في وصف الإنسان: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: ٢١ - ٢٢]. (٣) إذا فهمت حسن هذا التلطف، في الانتقال من المعنى القديم إلى المعنى الجديد، وأدركت جمال هذه الأوضاع الهندسية، التي تناسقت بها المعاني السابقة واللاحقة، فقد زالت عنك شبهة الاقتضاب هنا في الانتقال إلى حديث الصلاة .. غير أننا إذا قسنا هذه النقلة إلى النقلة السابقة بين الحلقتين؛ الأولى والثانية، ألسنا نرى هذا التمهيد قصيرًا وهذا التحول سريعًا؟ أليست النفس في سيرها هنا تدركها رجة خفيفة لهذا التحول السريع الذي تفرضه عليها حركة قائدها؟ ألا فاعلم، علمك الله، أن هذه سرعة مقصودة، وأن من الخير لنا أن نحس بهذه الرجة الخفيفة من أثر ذلك التحول السريع؛ فإن لذلك مغزى عميقًا في تربية النفوس المؤمنة .. إن هذه النقلة تصور لنا ما يجب أن يكون عليه المؤمن، إذا سمع نداء الواجب الروحي وهو منهمك في معركة الحياة، فكأننا بهذا الأسلوب الحكيم ينادينا: إنه ليس شأن المؤمن أن يحتاج إلى كبير معالجة للتسامي بروحه فوق مشاغل الأهل والولد، وإنما شأنه أن ينتشل نفسه من غمرتها انتشالًا فوريًّا، ليسرع إلى تلبية ذلك النداء الأقدس، قائلًا للدنيا كلها: (دعيني أتعبد لربي) *. نعم هذا شأن المؤمنين ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة: ١٦]. * عن عطاء، قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أمَّه كما قال الأول: زر غبًّا تزدد حبًّا، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله ﷺ، قال: فسكتت ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: (يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي)، قلت: والله إنِّي لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى وكان جالسًا، فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟! قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد نزلت علي الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٤]، الآية كلها»، صحيح ابن حبان: (٧/ ٧٢٢)، وصحح إسناده حسين أسد في تحقيق موارد الظمآن: (٢/ ٢٤١).