للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما خوف الموت فليعلم أن الذي يطلب الموت قد توهب له الحياة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ (٢٤٣).

(و) أما خوف الهزيمة، فإن النصر بيد الله ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٤٩] وتلك سنة الله في المرسلين (٢٤٦ - ٢٥٣).

هكذا أُبعدت المخاوف كلها عن قلوب المجاهدين، بعد أن زوِّدت أرواحهم بزاد التقوى، وهكذا أصبحوا على استعداد نفسي كامل، لتلقي الأوامر العليا، فليصدر إليهم الأمر صريحًا بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم (٢٤٤ - ٢٤٥) (١).

ولتفصل لهم العبر التاريخية، التي تثبت أقدامهم حين البأس، والتي تزيدهم أملًا في النصر (٢٤٦ - ٢٥٣).

والجهاد كما قلنا جهادان: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وليس الجهاد بالمال وقفًا على شؤون الحرب، بل هو بذله في كل ما يرفه عن الأمة، ويقوي شوكة الدولة، ويحمي حمى الملة.


(١) من الطرائف البيانية في أسلوب القرآن هنا أن النتيجة فيه تقع من المقدمات موقع المركز من الدائرة، لا موقع الطرف من الخط كما هو شأن الأسلوب التعليمي المشهور، ألا ترى هذا الأمر بالقتال في سبيل الله (٢٤٤) قد أحيط من جانبيه كليهما بدعائمه وبواعثه، إجمالًا قبل، وتفصيلًا بعد؟ .. على أن هذا المنهج الطريف لا يخص هذا الموضع من القرآن، فإنك ستجد شواهده مبثوثة في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز .. تدبَّر قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] فإن كمال الدين الإسلامي باشتماله ماديًّا وروحيًّا على كل النظم الكفيلة بإصلاح الفرد، والأسرة، والجماعة، والدولة، والإنسانية العامة، لم يذكر من دلائله قبل إلا طرف يسير، أما بقية البرهان فقد نثرت حباته على أثر ذلك إلى تمام الآية العاشرة من السورة المذكورة.
وانظر قوله تعالى في سورة النحل: ﴿لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [النحل: ٥١] فقد جاء وسطًا بين دلائل الوحدانية في التدبير، ودلائل الوحدانية في الإنعام والإحسان .. وتأمل قوله في السورة نفسها: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] فقد جاء بعد تبيين أصول العقيدة، وقبل تبيين أصول الفضيلة العملية، ومن جملة السابق واللاحق، يتألف البرهان على صدق هذه القضية، وهي أن الكتاب تبيان لكل شيء.

<<  <   >  >>