للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْإِكْرَاهِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ كَلَا فِعْلٍ فَكُلُّ مَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مُتَرَتِّبًا عَلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ يَكُونُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ كَانَ نَاشِئًا عَنْ فِعْلِهِ فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ بَلْ لَا إكْرَاهَ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ الْفِعْلُ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَمَوْضِعُ الْحُكْمِ الِانْفِعَالُ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ إكْرَاهٌ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ يُرَتِّبُ الْحُكْمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَشْمَلُ التَّرْكَ وَالْقَوْلَ وَقَدْ يُرَتِّبُهُ عَلَى الِانْفِعَالِ وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي رَفَعَهُ شَفَقَةً عَلَيْنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ.

نَعَمْ إنْ عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ بِحَيْثُ زَادَتْ عَلَى مَفْسَدَةِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يُرَتِّبْ شَيْئًا، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُبَحْ الْقَتْلُ وَلَا الزِّنَا وَهَذَا سَبَبُ اسْتِثْنَائِهِمْ لِهَذَيْنِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ فِي الثَّانِي مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَسْبَابِ وَالْعَلَامَاتِ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الرَّبْطُ بِنَحْوِ السَّبَبِ، أَوْ الشَّرْطِ، أَوْ الْمَانِعِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى فِعْلٍ وَلَا إلَى فَاعِلٍ كَمَا يَأْتِي. وَمِنْ ثَمَّ حَرُمَ الْإِرْضَاعُ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهِ مَنُوطٌ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْحَدَثِ كَانَ مُحْدِثًا، أَوْ التَّحَوُّلِ عَنْ الْقِبْلَةِ، أَوْ الْفِعْلِ الْكَثِيرِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَرْكِ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ بَطَلَ، أَوْ عَلَى نَحْوِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالرَّمْيِ وَالسَّعْيِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الصَّرْفُ صَحَّ، أَوْ عَلَى نَحْوِ غَشَيَانِ أَمَتِهِ فَحَبِلَتْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ وَلَحِقَهُ، أَوْ عَلَى وَطْءِ زَوْجَتِهِ صَارَ مُحْصَنًا وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَأَحَلَّهَا لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا، أَوْ عَلَى الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَلُحُوقُ النَّسَبِ وَانْفِسَاخُ نِكَاحِ نَحْوِ أَبِي الْوَاطِئِ كَمَجْنُونٍ وَطِئَ زَوْجَةَ أَبِيهِ، أَوْ أُكْرِهَ مَجُوسِيٌّ عَلَى ذَبْحٍ، أَوْ مُحْرِمٌ حَلَالًا عَلَى ذَبْحِ صَيْدٍ حَلَّ.

وَإِنْ جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الشُّرُوطِ وَنَحْوِهَا وَالْخِطَابُ فِيهَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا تَقَرَّرَ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَنَاطَ الْحُكْمَ بِوُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ، أَوْ الشَّرْطِ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى فِعْلٍ وَلَا إلَى فَاعِلٍ وَبِمَا قَرَّرْته فِي هَذَا الْمَحَلِّ يَتَّضِحُ لَك مُتَفَرِّقَاتُ كَلَامِهِمْ الْمُتَعَارِضَةُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَلْغَوْا الْإِكْرَاهَ تَارَةً وَاعْتَدُّوا بِهِ تَارَةً أُخْرَى أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَثَّرَ فِيهَا الْإِكْرَاهُ وَإِلَى أَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا لِمَا مَرَّ فِيهِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي بِالْعَكْسِ فَأَكْثَرُ مَسَائِلِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَبَعْضُهَا قَدْ يُؤَثِّرُ فِيهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مَأْخَذُهُ وَمَلْحَظُهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فَاسْتَفِدْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ يَزُولَ بِهِ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ لَا يُهْتَدَى إلَى حَلِّهَا إلَّا بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ كَمَا تَقَرَّرَ.

وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْته فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ التَّاجِ السُّبْكِيّ يَتَّضِحُ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ: لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي الْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَنْدُوبِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ إنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ. اهـ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُبَاحَ وَمَا بَعْدَهُ لَا إثْمَ فِي فِعْلِهَا وَلَا تَرْكِهَا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَخِيرَيْنِ فَإِنَّ فِيهِمَا إثْمًا فَإِذَا كَانَا لِدَاعِيَةِ الْإِكْرَاهِ انْتَفَى عَنْهُمَا الْإِثْمُ رُخْصَةً مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا مَرَّ. وَنَخْتِمُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ بِفَرْعَيْنِ مُشْكِلَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَوْ أَكْرَهَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرَ عَلَى وَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَوَطِئَهَا وَأَحْبَلَهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ لِشَرِيكِهِ الْمُكْرِهِ لَهُ أَوْ لَا لَا لِأَنَّهُ الْحَامِلُ لَهُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِيهِ نَظَرٌ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَقُولُ الَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لَهُ شَيْءٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةُ الْمُكْرِهِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ فِي مَوَاضِعَ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ فِعْلٍ فَكَيْفَ يَكُونُ فِعْلُهُ الْمُتَعَدِّي بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ سَبَبًا لِأَخْذِهِ مَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَلَا رِضَاءَ، وَظَاهِرٌ أَنَّ مَحَلَّ التَّرَدُّدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الْمُكْرَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ أَعْجَمِيًّا يَرَى وُجُوبَ طَاعَةِ آمِرِهِ وَإِلَّا فَهُوَ آلَةٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ ثَانِيهِمَا: قَطَعَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُكْرَهِ بِبَاطِلٍ عَقْدٌ وَلَا حَلٌّ كَبَيْعٍ وَطَلَاقٍ وَغَيْرِهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا فِيهِ قَوْلَا الْمُكْرَهِ وَهَذَا غَيْرُ مَا جَزَمُوا بِهِ.

وَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَزْمَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يُوقِعُهُ الْمُكْرَهُ مُنَجَّزًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا الْقَوْلَانِ فَمَحَلُّهُمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى فِعْلٍ سَبَقَهُ تَعْلِيقٌ بِالطَّلَاقِ مَثَلًا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ نَحْوُ إلَّا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تُكْرَهُ عَلَى دُخُولِهَا فَمَنْ نَظَرَ إلَى اخْتِيَارِهِ أَوَّلًا أَوْقَعَ عَلَيْهِ وَمَنْ نَظَرَ إلَى إكْرَاهِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>