عَلَى الدُّخُولِ لَمْ يُحَنِّثْهُ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ إنَّمَا يَسْتَنِدُ بِالْحَقِيقَةِ الْقَرِيبَةِ إلَى وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَوُجُودُهُ مِنْ الْمُكْرَهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ.
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ فَإِنَّهُ كَالِاخْتِيَارِ إذْ كَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْمُكْرَهِ أَنْ يَفْعَلَ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أُكْرِهَ، وَلَمْ يَسْقُطْ أَثَرُ فِعْلِهِ وَكَانَ آثِمًا عَلَى كَوْنِهِ أَحْوَجَ إلَى أَنْ يُكْرَهَ وَهَذَا كَالْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ يُكْرَهَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَيَصِحُّ وَإِنْ أَكْرَهَهُمَا كَافِرٌ مِنْهُمَا ظَاهِرًا وَكَذَا بَاطِنًا إنْ أَذْعَنَ لَهُ قَبْلَهُمَا وَمِنْ ذَلِكَ إكْرَاهُ الْإِمَامِ مُكَلَّفًا عَلَى الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ وَمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ أَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ إعْتَاقِهِ وَامْتَنَعَ مِنْهُ أُجْبِرَ عَلَى إعْتَاقِهِ فَيَصِحُّ وَيَقَعُ الْمَوْقِعَ وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَوْلَى مِنْ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَقَامَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الْوَطْءِ كَإِحْرَامٍ وَلَمْ يَفِئْ بِلِسَانِهِ بِأَنْ يَقُولَ إذَا زَالَ عُذْرِي وَطِئْتُ فَأَكْرَهَهُ الْقَاضِي عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ بِحَقٍّ فَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الثَّلَاثِ وَقُلْنَا الْقَاضِي لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَقَعَتْ وَاحِدَةً فَقَطْ وَلَغَا الزَّائِدُ، وَإِنْ قُلْنَا يَنْعَزِلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَهُوَ كَمَنْ أَكْرَهَهُ ظَالِمٌ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَهُ إنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ الْحُكْمَ مَا دَامَ بِالْحَقِّ فَإِذَا انْعَزَلَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فَسَاوَى سَائِرَ الْآحَادِ حِينَئِذٍ وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ نُفُوذُ الطَّلَاقِ مَعَ عَدَمِ الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ فِيمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: طَلِّقْ زَوْجَتِي، أَوْ أَعْتِقْ عَبْدِي، أَوْ بِعْ مَتَاعِي وَإِلَّا قَتَلْتُك مَثَلًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِكْرَاهَ تَضَمَّنَ إذْنًا فَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ جَاءَ النُّفُوذُ وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ إكْرَاهًا يَقْتَضِي إلْغَاءَ التَّصَرُّفِ وَلُحُوقَ الْإِثْمِ لِلْمُكْرِهِ بِالْكَسْرِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِيهِ حَيْثِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ رُتِّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا حُكْمُهُمَا لِانْفِكَاكِ الْحُكْمَيْنِ وَعَدَمِ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْته يُرَدُّ عَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ الْقَائِلِ بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَثَلًا هُنَا لِسُقُوطِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِالْإِكْرَاهِ (تَنْبِيهٌ) تَعْبِيرِي بِالْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ هُوَ مَا عَبَّرُوا بِهِ وَأَقَرُّوهُ
لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِكْرَاهَ عَلَى حَقٍّ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى حَقٍّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ وَالْمُعْتَبَرُ إنَّمَا هُوَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ لَا عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ إكْرَاهَ الذِّمِّيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ إكْرَاهٌ عَلَى حَقٍّ لَا بِهِ لِحُرْمَةِ إكْرَاهِهِ عَلَيْهِ لِقَبُولِنَا عَقْدَ الْجِزْيَةِ مِنْهُ الْمُسْتَلْزِمَ لِعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُ فَلَوْ أَسْلَمَ لِدَاعِيَةِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِبَاطِلٍ لَا يُقَالُ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَوْ قَالَ وَلِيُّ الدَّمِ لِلْقَاتِلِ طَلِّقْ امْرَأَتَك وَإِلَّا اقْتَصَصْتُ مِنْك لَمْ يَكُنْ إكْرَاهًا يَدْخُلُ فِي الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ مَعَ نَفْيِهِمْ عَنْهُ حَقِيقَةَ الْإِكْرَاهِ مِنْ أَصْلِهَا وَيَرُدُّ عَلَى مَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِحَقٍّ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَلَا عَكْسَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ الْمُكْرَهَ بِهِ حَقُّ الْمُكْرَهِ وَالطَّلَاقُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ حَقًّا لَهُ فَالْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِكْرَاهَ عَلَى حَقٍّ خِلَافُ مَا ادَّعَيْتُمْ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ إنَّ الْإِكْرَاهَ نَفْسَهُ حَقٌّ وَلَا يَكُونُ حَقًّا إلَّا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ لَازِمَيْهِ الْمُكْرَهِ بِهِ وَعَلَيْهِ حَقًّا فَخَرَجَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِيهَا لَيْسَ حَقًّا وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ حَلَالًا إذْ لَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يُكْرِهَ بِهِ عَلَى الطَّلَاقِ الَّذِي لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ بِوَجْهٍ.
(الْمَبَاحِثُ) فِي ذِكْرِ الصُّوَرِ الَّتِي مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فِي الْخُطْبَةِ وَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي بَعْضِهَا طِبْقَ مَا مَرَّ فِي بَحْثِ الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَفِي بَعْضِهَا خِلَافُ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ وُقُوعِهِ مَعَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِيهِ بِحَقٍّ فَلَمْ يَجْرُوا عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ مُطَابِقٍ لِمَا اسْتَثْنَوْهُ وَمِنْ الْوُقُوعِ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ وَعَدَمِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِبَاطِلٍ، فَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فِي الْأَيْمَانِ فِيمَا إذَا قَالَ لَا أُفَارِقُكِ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكِ أَنَّهُ لَوْ أَفْلَسَ الْغَرِيمُ فَمَنَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ فَفَارَقَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ حِنْثِ الْمُكْرَهِ وَإِنْ فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ حَنِثَ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ وَاجِبًا لِإِعْسَارِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لَا أُصَلِّي الْفَرْضَ فَصَلَّى حَنِثَ. اهـ.
وَبِهِ جَزَمَ غَيْرُهُمَا وَالْقِيَاسُ الْحِنْثُ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ وَقَوْلُهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ. . . إلَخْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا قَالَاهُ أَثْنَاءَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ فِيمَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا لَمْ أَطَأْك اللَّيْلَةَ فَوَجَدَهَا حَائِضًا أَوْ مُحْرِمَةً مِنْ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى عَدَمَ الْحِنْثِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - اعْتَرَضَهُ وَقَالَ بَلْ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْيَمِينِ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَعْصِيَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَمْ يَعْصِهِ حَنِثَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute