للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذِهِ قَدْ كَثُرَ فِيهَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَأَفْرَدَهَا جَمَاعَةٌ بِالتَّصْنِيفِ مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي وَالْغَزَالِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ وَصَاحِبُ الذَّخَائِرِ وَغَيْرُهُمْ وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِبَسْطِ الْكَلَامِ فِيهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَلَقَّنَهَا بَعْضُ الْعَوَامّ مِنْ بَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ كَمَا تَلَقَّنَهَا هَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ وَصَارُوا يُعَلِّمُونَهَا لِأَجْلَافِ الْبَوَادِي وَيَتَحَيَّلُونَ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِتَعْلِيمِهِمْ لَهَا وَأَبَاحُوا لَهُمْ الْعَمَلَ بِهَا وَجَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَتَكْرَارِهِ فِي أَلْسِنَتِهِمْ حَتَّى صَارَ لَهُمْ عَادَةً وَصَارَ جَرَاءَةً لَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، فَإِنَّ مَنْ سَمِعَهُمْ يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ يَظُنُّ صِدْقَهُمْ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ عَلَى الْحَلِفِ بِهِ كَاذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ وَبَالُهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَفَقِّهَةِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ وَأَغْوَاهُمْ وَصَيَّرَهُمْ مِنْ أَعْوَانِهِ يُضِلُّ بِسَبَبِهِمْ النَّاسَ وَيُلْجِئُهُمْ إلَى أَقْبَحِ الْمَسَالِكِ. فَعَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقْتُهُ وَعَذَابُهُ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْقَبِيحَةِ وَكَيْفَ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فُرُوضَ الْوُضُوءِ عَلَى وَجْهِهَا أَنْ يُفْتِيَ النَّاسَ فِي الْأَبْضَاعِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَنْسَابِ وَيَتَجَرَّأَ عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الْخَطَرِ، أَمَا عَلِمَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: ١١٦] {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: ١١٧] وَهَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ وَقَدْ ظَهَرَ فِي كَلَامِهِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ مَا قَضَى عَلَى حَالِهِ وَحَكَمَ عَلَى مَقَالِهِ بِالْجَهْلِ الْمُفْرِطِ وَالْغَبَاوَةِ الظَّاهِرَةِ وَبِأَنَّهُ عَامِّيٌّ صِرْفٌ لَا يَهْتَدِي لِضَارٍّ فَيَجْتَنِبُهُ وَلَا لِنَافِعٍ فَيَقْصِدُهُ

بَلْ هُوَ كَالرَّاكِبِ مَتْنَ عَمْيَاءَ وَالْخَابِطِ خَبْطَ عَشْوَاءَ وَمَنْ ذَا الَّذِي سَوَّغَ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يُفْتِيَ، أَوْ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَأْمُرُ بِرَدِّ النِّسَاءِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَلَوْ جَاءَ هَذَا الْجَاهِلُ مِنْ بِلَادِ الْأَجْلَافِ وَالْهَمَجِ الَّتِي هُوَ فِيهَا إلَى بِلَادِنَا بِلَادِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ لَأَمَرْنَا حُكَّامَنَا بِأَنْ يُوجِعُوهُ ضَرْبًا وَتَأْدِيبًا وَبِأَنْ يُبَالِغُوا فِي زَجْرِهِ وَتَعْنِيفِهِ بِالْحَبْسِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُنَاسِبُ جَرَاءَتَهُ عَلَى مَنْصِبٍ لَا يَعْرِفُهُ وَتَصَدِّيهُ لِرَدِّ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ الَّتِي جَاءَتْ لِتِلْكَ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ فِي جَوَابِهِ بِأَمْرِهِ بِرَدِّ النِّسَاءِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مُعْتَمِدٌ لِمَسْأَلَةِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ وَتَوَهَّمَ؛ لِأَنَّ لِمَسْأَلَةِ ابْنِ سُرَيْجٍ مَعَ ضَعْفِهَا نَقْلًا وَمَعْنًى كَمَا يَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا مَبْسُوطًا شُرُوطًا لَمْ يُحِطْ بِهَا هَذَا الرَّجُلُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ عَامِّيٌّ صِرْفٌ وَإِنَّمَا حَفِظَ كَلِمَاتٍ مِنْ بَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاعْتَنَى بِهَا دُونَ بَقِيَّةِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهَا جَلْبٌ لِحُطَامٍ مِنْ الدُّنْيَا وَتَكُونُ نَارًا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ كَيْفَ وَهُوَ مِمَّنْ صَدَقَ عَلَيْهِ إنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: ٧٧] مَا لَمْ يَتُبْ وَيَرْجِعْ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَسْتَغْفِرْهُ وَتَحْسُنْ تَوْبَتُهُ، فَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَمَنِ وَأَجِلَّائِهِمْ الَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى تَصْحِيحِ الدَّوْرِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ التَّعْلِيقُ مِنْ عَارِفٍ بِمَعْنَاهُ وَمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَالِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ عِلْمًا وَفَهْمًا وَمَعْرِفَةً ابْنُ عُجَيْلٍ ذَكَرَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ أَبُو بَكْرٍ وَلَدُ الْإِمَامِ مُوسَى بْنِ الزَّيْنِ الصِّدِّيقِيِّ الرَّدَّادِ شَارِحُ الْإِرْشَادِ فِي جَمْعِهِ لِفَتَاوَى وَالِدِهِ فَانْظُرْ إلَى هَذَا الشَّرْطِ الَّذِي شَرَطُوهُ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَامِّيٍّ بَلْ وَلَا لِمُتَفَقِّهٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الدَّوْرِ الْمُوجِبِ لِإِلْغَاءِ الطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ وَكَفَاك دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْغَزَالِيَّ مَعَ جَلَالَتِهِ وَوُصُولِهِ إلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الِاجْتِهَادِ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى، فَتَارَةً صَحَّحَ الدَّوْرَ لِظُهُورِ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ

وَتَارَةً أَفْسَدَهُ لِفَسَادِ مَعْنَاهُ، وَتَارَةً رَجَعَ عَنْ هَذَا إلَى الْأَوَّلِ عَلَى مَا قِيلَ وَاعْتَمَدَهُ الْأَصْبَحِيُّ لَكِنَّ كَلَامَ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الْآتِي يَرُدُّهُ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الرُّجُوعُ عَنْ صِحَّةِ الدَّوْرِ إلَى بُطْلَانِهِ وَعَلَى كُلٍّ فَقَدْ وَقَعَ لَهُ مِنْ التَّنَاقُضِ فِي ذَلِكَ وَمِنْ الْحُكْمِ بِبُطْلَانِهِ تَارَةً وَبِصِحَّتِهِ أُخْرَى مَا لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِدِقَّةِ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَزِيدِ خَفَائِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>