للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِنْ ثَمَّ اضْطَرَبَتْ فِيهَا أَفْهَامُ الْأَصْحَابِ وَاخْتَلَفَتْ وَتَبَايَنَتْ وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّدِّ عَلَى بَعْضٍ وَسَيَأْتِي عَنْ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُفْرَدِ فِي بُطْلَانِ الدَّوْرِ أَلْزَمَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهِ بِتَنَاقُضَاتٍ لِلْأُصُولِ وَمُخَالَفَاتٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْضَهُ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَا وَصَفْت لَك مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ الْعَظِيمِ وَتَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا أَنْ يَصْدُرَ التَّعْلِيقُ مِمَّنْ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا الزَّهْرَانِيَّ الْمُجِيبَ بِمَا مَرَّ لَا يَفْهَمُ ذَلِكَ وَلَا يَتَصَوَّرُهُ أَدْنَى تَصَوُّرٍ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمُجَازَفَاتِ فِي كَلَامِهِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ وَإِيضَاحُهُ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ وَفَضْلًا عَنْ أَجْلَافِ الْبَوَادِي. فَكَيْفَ سَاغَ لَهُ الْأَمْرُ بِرَدِّ النِّسَاءِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَالْإِفْتَاءِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ الْقَائِلِينَ بِالصِّحَّةِ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: ١٦] وَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ فِي تَدْرِيبِهِ وَنَاهِيكَ بِالْكِتَابِ وَمُصَنِّفِهِ أَنْ تَمْضِيَ لَحْظَةٌ بَعْدَ التَّعْلِيقِ تَسَعُ الْحُكْمَ بِالْوُقُوعِ أَمَّا لَوْ لَمْ تَمْضِ لَحْظَةٌ كَذَلِكَ بِأَنْ أَعْقَبَ تَعْلِيقَهُ بِالتَّنْجِيزِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَمِنْهَا كَمَا فِي التَّدْرِيبِ أَيْضًا أَنْ لَا تَطْلُقَ بِطَلَبِهَا فِي الْإِيلَاءِ وَالْحُكْمَيْنِ فِي الشِّقَاقِ، أَمَّا إذَا طَلَّقَ بِطَلَبِهَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ أَيْضًا كَمَا يَقَعُ الْفَسْخُ فِي إنْ فَسَخْت بِعَيْبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا وَمِنْهَا كَمَا فِيهِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلتَّعْلِيقِ الْمُوجِبِ لِإِلْغَاءِ الدَّوْرِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهِ.

أَمَّا لَوْ نَسِيَهُ ثُمَّ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ أَوْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَاسٍ لَهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ أَيْضًا وَإِذَا تَقَرَّرَ لَك أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ عَلَى ضَعْفِهِ مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْكَثِيرَةِ فَكَيْفَ سَاغَ لِهَذَا الزَّهْرَانِيِّ التَّجَرِّي عَلَى الْإِفْتَاءِ بِإِطْلَاقِ صِحَّةِ الدَّوْرِ مِنْ ذِكْرِهِ هَذِهِ الشُّرُوطِ جَمِيعِهَا وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ. وَالْمَجْمُوعِ مَتَى أَطْلَقَ الْمُفْتِي إفْتَاءَهُ فِي مَحَلِّ التَّفْصِيلِ كَانَ مُخْطِئًا وَبِهِ يُعْلَمُ خَطَأُ هَذَا الْمُفْتِي وَأَنَّهُ عَاصٍ آثِمٌ وَلَيْتَهُ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ لِكَلَامِ النَّاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَلَقَّنَهُ مِنْ شَيْخِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَلَمْ يَضُمَّ لِذَلِكَ أَمْرَهُ بِرَدِّ النِّسَاءِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَذَلِكَ أَخَفُّ وَأَمَّا تَصَدِّيهِ لِلْإِفْتَاءِ وَأَمْرُهُ بِرَدِّهِنَّ مَعَ جَهْلِهِ بِتِلْكَ الشُّرُوطِ فَخَطَأٌ عَظِيمٌ وَذَنْبٌ قَبِيحٌ جَسِيمٌ. عَلَى أَنَّ شَيْخَهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ حِصَّةٌ وَافِرَةٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ لَهُ مُجَرَّدَ تَعْدَادَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا مِنْ الشُّرُوطِ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْإِضْلَالُ لِتِلْمِيذِهِ الْمَذْكُورِ وَلِلْعَوَامِّ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ لَهُمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ - وَعَدَّدَ بَعْضَهُمْ - قَائِلُونَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِتَقْلِيدِهِمْ حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَيْهِمْ طَلَاقٌ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: شَرْطُ عَدَمِ الْوُقُوعِ عِنْدَهُمْ كَذَا أَوْ كَذَا. فَهَلْ هَذَا إلَّا جَهْلٌ مُفْرِطٌ وَضَلَالٌ بَيِّنٌ وَإِطْلَالٌ لِلْعَوَامِّ وَاتِّبَاعٌ لِهَوَى النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ وَوَسْوَسَتِهِ إيثَارًا لِلْعَرْضِ الْفَانِي وَهُوَ مَا أَخَذَهُ مِنْ الرِّشَا وَالسُّحْتِ الَّذِي يَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فِي قَبْرِهِ فَقَبَّحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الرَّجُلَ الزَّهْرَانِيَّ وَشَيْخَهُ الْمَذْكُورَ فَإِنَّهُمَا ضَلَّا وَأَضَلَّا ضَلَالًا مُبِينًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْهَوَى وَإِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَغِشِّ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمِ نُصْحِهِمْ أَنَّهُ ذَكَرَ مُجَرَّدَ تَعْدَادٍ لِبَعْضِ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَأَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ اخْتَلَفُوا فِي النَّقْلِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ حَتَّى قَالَ أَقَضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ وَنَاهِيكَ بِهِ: مَنْ نَقَلَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ فَقَدْ وَهَمَ

وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ اخْتَلَفَ جَوَابُهُ فَقَالَ مَرَّةً بِالصِّحَّةِ، وَهِيَ الَّتِي اُشْتُهِرَتْ عَنْهُ، وَقَالَ مَرَّةً بِالْبُطْلَانِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي كَافِيهِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ وَلَمْ يُعْرَفْ الْمُتَأَخِّرُ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَسَاقُطِهِمَا وَالرُّجُوعِ إلَى مَرْجِعٍ آخَرَ، وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَيْضًا قَوْلَ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ الشَّامِلِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَجَلِّ كُتُبِ الْمَذْهَبِ أَخْطَأَ مَنْ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ خَطَأً ظَاهِرًا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَذْهَبٍ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَيْضًا.

قَوْلَ الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي رَجَعَ فِيهِ عَنْ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ فَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِهِ دَخَلْت بَغْدَادَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَتَوَاتَرَتْ عَلَيَّ الْأَسْئِلَةُ عَنْ دَوْرِ الطَّلَاقِ وَرَأَيْت أَكْثَرَهُمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>