للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَدْ أَطْبَقَ عَلَى إبْطَالِ الدَّوْرِ وَتَشْدِيدِ النَّكِيرِ عَلَى مَنْ يُصَحِّحُ الدَّوْرَ وَيَحْسِمُ بِهِ بَابَ الطَّلَاقِ مُعَوِّلِينَ فِيهِ عَلَى اعْتِرَاضَاتٍ ضَعِيفَةٍ قَاصِرَةٍ عَنْ إبْطَالِ عُمْدَةِ الْقَوْلِ بِالدَّوْرِ فَابْتَدَأْت فِي تِلْكَ الْمُنَاظَرَاتِ لِأُبْطِلَ اعْتِرَاضَاتِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَصَنَّفْت فِيهِ كِتَابًا سَمَّيْته غَايَةُ الْغَوْرِ فِي نِهَايَةِ الدَّوْرِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَزْيِيفِ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ وَمُهَيِّئًا لِلْكَلَامِ فِيهِ إلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ. ثُمَّ انْتَشَرَ ذَلِكَ الْكِتَابُ فِي الْأَمْصَارِ وَاسْتَطَارَ الْفَتْوَى بِصِحَّةِ الدَّوْرِ مِنِّي فِي الْأَقْطَارِ، ثُمَّ اتَّفَقَ لِي بَعْدَ ذَلِكَ فِكْرَةٌ فِي حَقِيقَةِ الدَّوْرِ فَاطَّلَعْت فِيهِ عَلَى غَوْرٍ وَتَغَيَّرَ شَبَهُ الِاجْتِهَادِ وَرَأَيْت إيقَاعَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدَّوْرِ أَقْرَبَ إلَى السَّدَادِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الدَّوْرِ مِنْ الْفَسَادِ الْمَانِعِ مِنْ الِاعْتِقَادِ، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ إثْبَاتِ ذَلِكَ لِنُعَوِّلَ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْفَتْوَى قَبْلَهُ. فَذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي وَعَلَى التَّخْمِينِ وَالِاجْتِهَادِ تُبْنَى فِقْهِيَّاتُ الْمَسَائِلِ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ فَأَقُولُ: لَفْظُ الْعَقْدِ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى مُحَالٍ وَجَبَ إلْغَاؤُهُ، وَلَفْظُ الدَّوْرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُحَالٍ فَيَجِبُ إلْغَاؤُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَطَالَ فِيهِ فَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ هَذَا تَجِدْهُ مُصَرِّحًا بِأَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ بَغْدَادَ فِي زَمَنِهِ

وَنَاهِيكَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ مِنْ كَثْرَةٍ وَجَلَالَةٍ عَلَى بُطْلَانِ الدَّوْرِ وَبِأَنَّهُ كَانَ ظَهَرَ لَهُ أَوَّلًا صِحَّتُهُ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ فَسَادُهُ وَبِأَنَّ فَسَادَهُ هُوَ الْحَقُّ وَصِحَّتَهُ هِيَ الْبَاطِلُ لِقَوْلِهِ: وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَيْضًا قَوْلَ الْمُتَوَلِّي وَنَاهِيكَ بِجَلَالَتِهِ إنْ كُنْت جَاهِلًا بِمَقَادِيرِ الرِّجَالِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي إبْطَالِ الدَّوْرِ وَلَفْظِهِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ لَمَّا ظَهَرَ مَيْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ إلَى مَسْأَلَةٍ تُعْرَفُ بِالْيَمِينِ الدَّائِرَةِ، وَانْتَشَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْعَوَامّ الْهَمَجِ فَصَارَ يَلْقَفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَسْوَاقِ وَيُفْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بَعْدَهَا وَنُسِبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى الرَّفْضِ لَمَّا وَقَعَ فِي لِسَانِ الْعَامَّةِ أَنَّ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ، وَصَارَ ذَلِكَ شَنَاعَةً فِي الْمَذْهَبِ وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى هَذَا مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا لَمْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ ذَلِكَ لِلْعَوَامِّ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ سَأَلَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنْ أَبْسُطَ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَكْشِفَ عَنْ الشُّبْهَةِ فِيهَا وَأُظْهِرَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ فَأَجَبْته مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ خَيْرُ مُوَفِّقٍ وَمُعِينٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الدَّوْرَ وَأَطَالَ فِي بَيَانِ بُطْلَانِهِ وَمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ مِمَّا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْضُهُ، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَضِيَ عَنْهُ وَجَزَاهُ خَيْرًا -: وَانْتَشَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْعَوَامّ الْهَمَجِ، تَجِدْهُ مُصَرِّحًا بِأَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى الْإِفْتَاءِ بِتَصْحِيحِ الدَّوْرِ إلَّا عَوَامُّ الْأَسْوَاقِ الَّذِينَ لَا يُعْبَأُ بِهِمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ، وَلَعَلَّ هَذَا الزَّهْرَانِيَّ مِنْ أُولَئِكَ الْعَوَامّ فَإِنَّ كَلَامَ الْمُتَوَلِّي هَذَا مُنْطَبِقٌ عَلَيْهِ وَعَلَى شَيْخِهِ. وَتَأَمَّلْ أَيْضًا الْفَسَادَ الَّذِي انْجَرَّ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ أُولَئِكَ الْعَوَامّ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَشَاعُوا ذَلِكَ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا صَارَ النَّاسُ يَعْتَقِدُونَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ أَرْفَاضٌ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ إنَّمَا يُعْزَى إلَى الْأَرْفَاضِ بَلْ إلَى النَّصَارَى كَمَا يَأْتِي. فَقَاتَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أُولَئِكَ الْعَوَامَّ وَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ الْقَبِيحَ.

كَهَذَا الرَّجُلُ وَشَيْخُهُ فَإِنَّهُمْ سَلَّطُوا الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ عَلَى الْخَوْضِ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ بِمَا هُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُ فَمَعَاذَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَفُرْسَانُ مَيْدَانِهَا أَنْ يُتَوَهَّمَ فِيهِمْ ذَلِكَ لَكِنَّ الْإِثْمَ الْعَظِيمَ وَالْعِقَابَ الْأَلِيمَ إنَّمَا هُوَ عَلَى أُولَئِكَ الْعَوَامّ وَمَنْ تَبِعَهُمْ وَشَابَهَهُمْ، حَيْثُ جَعَلُوا أَئِمَّةَ الدِّينِ وَعُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ هَدَفًا وَعُرْضَةً لِإِلْحَاقِ النَّقَائِصِ الْقَبِيحَةِ بِهِمْ وَلِلْخَوْضِ فِي أَعْرَاضِهِمْ الزَّكِيَّةِ الطَّاهِرَةِ بِالثَّلْبِ وَالسَّبِّ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ - بِالضَّرُورَةِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ - مُعَادٍ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» أَيْ: أَعْلَمْته أَنِّي مُحَارِبٌ لَهُ، وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُفْلِحُ أَبَدًا، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِسُوءِ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. هَذَا فِيمَنْ عَادَى وَلِيًّا فَكَيْفَ بِمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءً كَثِيرِينَ. وَتَأَمَّلْ أَيْضًا قَوْلَ الْمُتَوَلِّي: وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ قُدَمَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>