أَصْحَابِنَا لَمْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ ذَلِكَ لِلْعَوَامِّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَشَاعَةِ تَجِدُهُ صَرِيحًا أَيْضًا فِي امْتِنَاعِ إظْهَارِ ذَلِكَ لِلْعَوَامِّ وَلَوْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الرُّويَانِيِّ مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَلَا وَجْهَ لِتَعْلِيمِ الْعَوَامّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ كَالرَّوْضَةِ يَحْرُمُ التَّسَاهُلُ فِي الْفَتْوَى، وَمَنْ عُرِفَ بِهِ يَحْرُمُ اسْتِفْتَاؤُهُ فَمِنْ التَّسَاهُلِ أَنْ لَا يَتَثَبَّتَ وَيُسْرِعُ بِالْفَتْوَى قَبْلَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا مِنْ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ التَّسَاهُلِ أَنْ تَحْمِلَهُ الْأَغْرَاضُ الْفَاسِدَةُ عَلَى تَتَبُّعِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ الْمَكْرُوهَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالشُّبْهَةِ طَلَبًا لِلتَّرْخِيصِ لِمَنْ يَرُومُ نَفْعَهُ، أَوْ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ ضُرَّهُ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ الْحِيلَةِ الَّتِي فِيهَا شَبَهٌ وَيُذَمُّ فَاعِلُهَا الْحِيلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ فِي سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ. اهـ.
فَتَأَمَّلْ عِبَارَتَهُ هَذِهِ تَجِدْهَا صَرِيحَةً فِي مَنْعِ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ مِنْ الْإِفْتَاءِ لَوْ كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ فَكَيْفَ وَهُوَ عَامِّيٌّ صِرْفٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَظْهَرَ هَذِهِ الْحِيلَةَ لِلْعَوَامِّ وَعَلَّمَهَا لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ نِسَائِهِمْ بَعْدَ حِنْثِهِمْ فِيهِنَّ بِالثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَوْ ذَكَرَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي ذَمِّ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ لِلْعَوَامِّ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ فِيهَا، وَمِمَّنْ ذَمَّهَا أَيْضًا وَبَالَغَ فِي تَخْطِئَةِ الْقَائِلِينَ بِهَا الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ. وَنَاهِيك بِهِ جَلَالَةً وَمِنْ ثَمَّ لُقِّبَ بِسُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ وَعِبَارَتُهُ كَمَا حَكَاهُ تِلْمِيذُهُ الْإِمَامُ الْقَرَافِيُّ عَنْهُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَصِحُّ فِيهَا التَّقْلِيدُ وَالتَّقْلِيدُ فِيهَا فُسُوقٌ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يُنْقَضُ إذَا خَالَفَ أَحَدَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْإِجْمَاعَ، أَوْ النَّصَّ، أَوْ الْقَوَاعِدَ، أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَمَا لَا نُقِرُّهُ شَرْعًا إذَا تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَنَنْقُضُهُ فَأَوْلَى فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ شَرْعٍ هَلَاكٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَالِفَةٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ التَّقْلِيدُ فِيهَا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا بَيَانٌ حَسَنٌ ظَاهِرٌ. اهـ. وَأَقَرَّهُمَا عَلَى ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ وَمِمَّنْ بَالَغَ فِي ذَمِّهَا أَيْضًا الْإِمَامُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَإِنَّهُ جَعَلَهَا فِي فَتَاوِيهِ مِمَّا وَدَّ لَوْ مُحِيَتْ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ فِيهِ صِحَّةَ الدَّوْرِ تَبَعًا لِابْنِ سُرَيْجٍ
فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: ابْنُ سُرَيْجٍ بَرِيءٌ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الطَّوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَجَمَاهِيرِ أَصْحَابِنَا إبْطَالُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَدُّ بَابُ الطَّلَاقِ بَلْ يَقَعُ فِي كَمِّيَّةِ الْوَاقِعِ مِنْهَا. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْخَادِمِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ الْقَوْلَ بِانْسِدَادِ بَابِ الطَّلَاقِ قَوْلٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ نِكَاحٍ وَمَا مِنْ نِكَاحٍ إلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الطَّلَاقُ قَالَ وَسَبَبُ الْغَلَطِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا صِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَالُوا: إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ.
وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا. قَالَ: وَمَا أَدْرِي هَلْ اسْتَحْدَثَ ابْنُ سُرَيْجٍ هَذَا لِلِاحْتِيَالِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، أَوْ قَالَهُ مِنْ طُرُقِ الْقِيَاسِ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَاحْتَالَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ. وَالظَّاهِرُ الثَّانِي. اهـ. وَقَالَ فِي الْخَادِمِ أَيْضًا: وَبَالَغَ السُّرَيْجِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ الْقَوْلُ بِانْسِدَادِ بَابِ الطَّلَاقِ يُشْبِهُ مَذْهَبَ النَّصَارَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الزَّوْجَ إيقَاعُ طَلَاقٍ عَلَى زَوْجَتِهِ مُدَّةَ عُمُرِهِ. إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ فَلْتَرْجِعْ إلَى الْكَلَامِ عَلَى الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الزَّهْرَانِيِّ وَنَبْنِي عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْمُجَازَفَاتِ وَالْجَهَالَاتِ وَالتَّنَاقُضَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى سُوءِ فَهْمِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ، بَلْ وَعَلَى إفْرَاطِهِ فِي الْجَهْلِ وَالتَّسَاهُلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَبَائِحِ الَّتِي سَتَتَّضِحُ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ عَنْ جَوَابِ الْمُفْتِي الَّذِي جَاءَهُ مِنْ مَكَّةَ أَنَّ فِيهِ مَنْ أَلْقَى عَلَى زَوْجَتِهِ بِمَسْأَلَةِ الدَّوْرِ أَنَّهَا تَطْلُقُ بِنَفْسِ الْإِلْقَاءِ كَلَامٌ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ وَلَا يَتَوَهَّمُ هَذَا مَنْ لَهُ أَدْنَى إلْمَامٍ بِفِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ كَيْفَ وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ فَضْلًا عَنْ الْمُطَوَّلَاتِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ قَوْلُهُ عَنْ شَيْخِهِ مُرَادُ النَّوَوِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ طَلُقَتْ وَلَا تَطْلُقُ بِنَفْسِ الْإِلْقَاءِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا جَهْلٌ إذْ لَا يُقَالُ الْمُرَادُ كَذَا إلَّا إذَا دَلَّتْ الْعِبَارَةُ عَلَى خِلَافِهِ وَعِبَارَةُ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مُجَرَّدَ التَّعْلِيقِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ حَتَّى فِي الْمِنْهَاجِ الَّذِي سَاقَ هَذَا الزَّهْرَانِيُّ عِبَارَتَهُ فَقَوْلُهُ: فَطَلَّقَهَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَزَلُوا النِّسَاءِ عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute