لِإِعْسَارِهِ مَعَ حُلُولِ الدَّيْنِ صَحَّ أَيْضًا أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ فِي آخِرِ الْأَيْمَانِ لَوْ شُفِيَ مَرِيضُهُ فَقَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ لِمَا أَنْعَمَ عَلَيَّ مِنْ شِفَاءِ مَرِيضِي لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِالْمَنْذُورِ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا لَوْ عُلِّقَ بِشِفَائِهِ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى أَنَّ هُنَا جَزَاءَ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَأَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْمُجَازَاةِ الْمُعَلَّقَةِ قَبْلَ الْحُصُولِ وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مُعْتَمَدٌ. اهـ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ إنَّهُ قِيَاسُ سُجُودِ الشُّكْرِ. اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ فِي نَذْرِ الْمُجَازَاةِ هُوَ أَنْ يُعَلِّقَ الْتِزَامَ الْمَالِ عَلَى حُصُولِ نِعْمَةٍ يَرْجُوهَا مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ يَحْذَرُهَا كَنَجَاةٍ مِنْ هَلَكَةٍ وَضَبَطَهُ الصَّيْمَرِيُّ بِأَنْ يُعَلِّقَ الْقُرْبَةَ عَلَى حُصُولِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ وَأَنْ يَسْأَلَهُ إيَّاهُ فَإِذَا حَصَلَ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ. اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ بَعْدَ أَنْ افْتَرَضَ وَلَزِمَ الدَّيْنُ ذِمَّتَهُ إذَا نَذَرَ لِمُقْرِضِهِ كُلَّ سَنَةٍ بِكَذَا انْحَلَّ هَذَا النَّذْرُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَذِرْت لَك عَلَيَّ بِكَذَا كُلَّ سَنَةٍ إنْ صَبَرْت عَلَيَّ فَجَعَلَ هَذَا النَّذْرَ مُجَازَاةً لِصَبْرِهِ عَلَيْهِ وَصَبْرُهُ عَلَيْهِ فِيهِ نِعْمَةٌ لِرِفْقِهِ بِذَلِكَ الْمَالِ وَانْدِفَاعِ نِقْمَةٍ عَنْهُ مِنْ نَحْوِ مُطَالَبَتِهِ وَحَبْسِهِ وَإِضْرَارِهِ فَدَخَلَ حِينَئِذٍ هَذَا النَّذْرُ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي كَلَامِهِمْ فَاتَّضَحَ صِحَّتُهُ وَلُزُومُ الْوَفَاءِ بِهِ وَإِنْ أَطْلَقَ النَّاذِرُ نَذْرَهُ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ مَحَلُّ التَّرَدُّدِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الْمُبْطِلَ وَهُوَ الْحَالَةُ الْأَوْلَى السَّابِقَةُ وَالْمَعْنَى الْمُصَحَّحُ وَهُوَ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي بَعْدَهَا وَاَلَّذِي يُفْهِمُهُ قَوْلُهُمْ السَّابِقُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ ثُمَّ عَقَدَا بِذَلِكَ الْقَصْدِ الصِّحَّةَ هُنَا فِي حَالَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ إذْ الصِّيغَةُ بِوَضْعِهَا صَحِيحَةٌ وَإِنَّمَا أَبْطَلَهَا قَصْدُ الْوَفَاءِ بِالْمُوَاطَأَةِ الْمَكْرُوهَةِ وَنَحْوِهِ
فَإِذَا خَلَتْ عَنْ ذَلِكَ الْقَصْدِ الْمُبْطِلِ لَزِمَ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا إذْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا حِينَئِذٍ مُبْطِلٌ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا وَمِمَّا يَدُلُّ لِتَأْثِيرِ الْقَصْدِ فِي صِحَّةِ النَّذْرِ الْمُحْتَمَلَةِ بَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ الْجِهَادَ أَنَّهَا إنْ أَرَادَتْ بِهِ الْقِتَالَ وَمُكَافَحَةَ الْأَبْطَالِ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهَا وَإِنْ قَصَدَتْ بِهِ مُدَاوَاةَ الْجَرْحَى وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُجَاهِدِينَ انْعَقَدَ نَذْرُهَا فَقَدْ كُنَّ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يَخْرُجْنَ لِتِلْكَ. اهـ. بَلْ قَدْ صَرَّحَ الشَّيْخَانِ كَجَمَاعَةٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالُوا قَدْ تَتَرَدَّدُ الصِّيغَةُ فَتَحْتَمِلُ نَذْرَ التَّبَرُّرِ وَتَحْتَمِلُ نَذْرَ اللَّجَاجِ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى قَصْدِ الشَّخْصِ وَإِرَادَتِهِ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ فِي نَذْرِ التَّبَرُّرِ يَرْغَبُ فِي السَّبَبِ وَهُوَ شِفَاءُ الْمَرِيضِ مَثَلًا بِالْتِزَامِ الْمُسَبَّبِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْمُسَمَّاةُ وَفِي نَذْرِ اللَّجَاجِ يَرْغَبُ عَنْ السَّبَبِ لِكَرَاهَتِهِ الْمُلْتَزَمَ. اهـ. وَإِذَا تَأَمَّلْت فَرْقَهُمْ الْمُتَضَمِّنَ لِحَدِّ نَذْرِ التَّبَرُّرِ الْمُتَعَيَّنِ الْوَفَاءُ بِهِ بِمَا ذُكِرَ عَلِمْت أَنَّ النَّذْرَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ أَقْسَامِ نَذْرِ التَّبَرُّرِ إلَّا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ مَا قَصَدَ الْوَفَاءَ بِالْمُوَاطَأَةِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِصِحَّةِ النَّذْرِ لِلْغَنِيِّ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ قُرْبَةٌ فَجَازَ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ وَفِي فَتَاوَى الْوَلِيِّ أَبِي زُرْعَةَ مَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْته فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ نَزَلَ لِآخَرَ عَنْ أَرْضٍ يَسْتَحِقُّ مَنْفَعَتَهَا بِالْإِقْطَاعِ فَالْتَزَمَ الْمَنْزُولُ لَهُ بِالنَّذْرِ الشَّرْعِيِّ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ لَهُ مَنْشُورُ إقْطَاعِهَا بِمُقْتَضَى ذَلِكَ النُّزُولِ دَفَعَ لَهُ كَذَا فَوُجِدَتْ الصِّفَةُ فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا النَّذْرُ فَأَجَابَ بِصِحَّتِهِ وَأَنَّهُ نَذْرُ مُجَازَاةٍ وَلَا يُنَافِيه مَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ وَأَقَرَّاهُ مِنْ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ قَالَ لِلْمُشْتَرِي إنْ خَرَجَ الْمَبِيعَ مُسْتَحَقًّا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهَبَ مِنْك مِائَةَ دِينَارٍ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا نَذْرُ لَجَاجٍ إذْ لَيْسَ لِلْبَائِعِ غَرَضٌ فِي أَنْ يُخْرِجَ الْمَبِيعَ مُسْتَحَقًّا وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِزَعْمِهِ وَدَفْعًا لِقَوْلِ قَائِلٍ لَيْسَ هَذَا مِلْكَهُ بِخِلَافِ الْمَنْزُولِ لَهُ فَإِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي أَنْ يَصِيرَ الْإِقْطَاعُ لَهُ وَهِيَ نِعْمَةٌ فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهَا بِمَا يَدْفَعُهُ لِلنَّاذِرِ فَإِنْ قَبِلَ لَمْ يَسْتَنِدْ الْغَزَالِيُّ فِي الْبُطْلَانِ إلَى كَوْنِهِ نَذْرَ لَجَاجٍ
وَإِنَّمَا اسْتَنَدَ إلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ فَنَذْرُ اللَّجَاجِ فِي صُورَتِهِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ قُلْنَا صُورَةَ الْغَزَالِيِّ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ الْمَدْفُوعَ هِبَةٌ وَأَمَّا هَذِهِ فَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَقَةً قَصَدَ بِهَا ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهِ الصَّدَقَةَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ لِكَوْنِهِ مُكَافَأَةً لِيَدٍ سَبَقَتْ مِنْ النَّازِلِ بِسَبَبِ نُزُولِهِ وَالْمُكَافَأَةُ عَلَى الْإِحْسَانِ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي صُورَةِ الْغَزَالِيِّ. اهـ. فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهِ الصَّدَقَةَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَخْ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِيمَا ذَكَرْته مِنْ الصِّحَّةِ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَبِمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute