أَعْرَضَ عَنْهُ جَزْمًا وَنَقَضَهُ بِطَرِيقِهِ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ فِي وَاقِعَةٍ فَهَلْ يَتَرَتَّبُ كُلُّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ أَمْ كُلُّ حَاكِمٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ كَمَا إذَا وُكِّلَ وَكِيلٌ فِي صُلْحٍ أَوْ بَيْعٍ ثُمَّ بَاعَ أَوْ صَالَحَ بِمِائَةٍ وَمَا أَظْهَرَ مِنْهَا إلَّا أَرْبَعِينَ ثُمَّ إنَّهُ اسْتَبْرَأَ مِنْ الْمُوَكَّلِينَ مِنْ وَكِيلِهِمْ فَقَالَ قَدْ أَبْرَأْتُمُونِي مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَقَدْ اتَّهَمْتُمُونِي بِالْمِائَةِ وَأَبْرَأْتُمُونِي مِنْهَا وَقَالُوا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهَا مِائَةٌ إلَّا كُنَّا مُتَّهِمِينَ وَأَبْرَأْنَا مِنْ شَيْءٍ لَا نَعْلَمُهُ وَالْآنَ عَلِمْنَا وَلَا نَرْضَى تِلْكَ الْبَرَاءَةَ فِي هَذَا الزَّائِدِ فَقَالَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمْت بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ حَتَّى إنَّهُ لَوْ ظَهَرَ زِيَادَةٌ كَانَتْ لِلْوَكِيلِ فَهَلْ يَكُونُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقُولُ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حُكْمِي أَمْ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مُعْتَقَدِ الْحَاكِمِ الْآخَرِ الَّذِي قَامَتْ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ بِالْمِائَةِ وَتَكُونُ لِلْمُوَكِّلِينَ اُبْسُطُوا الْجَوَابَ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ إنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ أَوْ الْمُوجَبِ يَسْتَتْبِعُ جَمِيعَ الْآثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَقْتَهُ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ إلَى مَذْهَبِ الْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بِمَا يُخَالِفُ مَذْهَبَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ -، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَمَّا لَوْ دَفَعَ الْمُسْتَفْتِي وَالْمُتَزَوِّجُ إلَى مُجِيبِهِ أَوْ مُلْفِظِهِ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مَا حُكْمُهُ وَمَا حُكْمُ الْوَقْفِ عَلَى الْقَاضِي؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِقَوْلِهِ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَأْخُذَ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ الْمُسْتَفْتِي تَبَرُّعًا وَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَا تَلْزَمُنِي الْكِتَابَةُ لَك فَإِنْ أَرَدْتهَا فَاسْتَأْجِرْنِي عَلَيْهَا فَإِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِشَيْءٍ وَدَفَعَهُ جَازَ لَهُ أَخْذُهُ.
لَكِنَّ الْأَوْلَى التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِأَكَابِرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي ذَلِكَ وَيَجُوزُ لِمَنْ عَلَّمَ آخَرَ كَيْفَ يَتَلَفَّظُ بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ نَحْوِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُتَعَلِّمِ مَا يُعْطِيهِ لَهُ تَبَرُّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ كَمَا مَرَّ فِي الْمُفْتِي وَبِمَا ذَكَرْته فِي الْمُفْتِي صَرَّحَ السُّبْكِيّ فَقَالَ فَإِنْ قُلْت الْعَالِمُ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ أَوْ وَجَبَ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ هَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ الْأُجْرَةِ أَوْ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهِ قُلْت هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَالْأَوْلَى التَّنَزُّهُ عَنْهُ.
وَلَا يَظْهَرُ الْتِحَاقُهُ فِي التَّحْرِيمِ بِالْقَاضِي فَإِنَّ الْقَاضِيَ فِيهِ وَصْفَانِ أَحَدُهُمَا الْوُجُوبُ وَالثَّانِي كَوْنُهُ نَائِبًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَالِمُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْأَوَّلُ فَقَطْ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا يَتَعَاطَاهُ مِنْ الْعُقُودِ وَالْفُرُوضِ وَالْفُسُوخِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَحْكَامًا بِمَعْنَى أَنَّهَا لَيْسَتْ تَنْفِيذًا لِمَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ بَلْ إنْشَاءَ تَصَرُّفَاتٍ مُبْتَدَأَةٍ وَلَكِنَّ الْأَخْذَ عَلَيْهَا مُمْتَنِعٌ كَالْحُكْمِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِيهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ. اهـ. قَالَ غَيْرُهُ وَلِلْمُفْتِي قَبُولُ هَدِيَّةٍ لَا رِشْوَةٍ مِنْ السَّائِلِ لِيُفْتِيَهُ بِمُرَادِهِ.
وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْقَاضِي كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ بَلْ اقْتَضَى كَلَامُهُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَذْرَعِيَّ قَالَ فِي سُؤَالِهِ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ مِمَّنْ لَا حُكُومَةَ لَهُ وَلَا غَرَضَ إلَّا التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ نِزَاعٌ وَالْقَلْبُ إلَى التَّحْرِيمِ أَمْيَلُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى الرِّشَا وَيَفُوتَ الْمَعْنَى الَّذِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهِ الْهَدِيَّةُ وَهُوَ مَيْلُ النَّفْسِ هَذَا كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ فِي السُّؤَالِ وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الرَّوْضِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَالْهَدِيَّةِ.
وَأَجَابَ السُّبْكِيّ فَقَالَ مَا حَاصِلُهُ الَّذِي يَظْهَرُ لِي جَوَازُ ذَلِكَ أَيْ الصَّدَقَةِ وَلَيْسَ عِنْدِي فِيهِ نَقْلٌ فَالْأَوْلَى التَّنَزُّهُ عَنْهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ يُقْصَدُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُتَصَدِّقُ فِي الْحَقِيقَةِ دَافِعٌ لِلَّهِ تَعَالَى صَدَقَتَهُ أَيْ تَقَعُ فِي يَدِ قَبُولِهِ وَثَوَابِهِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ الْفَقِيرِ فَهُوَ آخِذٌ مِنْهُ لَا مِنْ الْمُتَصَدِّقِ وَالْهَدِيَّةُ يُقْصَدُ بِهَا التَّوَدُّدُ وَالْمَيْلُ وَوَجْهُ الْمُهْدَى إلَيْهِ وَالْمِيلُ هُوَ الْمَحْذُورُ فِي الْقَاضِي فَافْتَرَقَا وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَالْهِبَةِ مَنْدُوبٌ يُثَابُ عَلَيْهِ إذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا مُمَيِّزَ لِلصَّدَقَةِ عَنْهُمَا إلَّا مَا مَرَّ وَحِينَئِذٍ فَاللَّامُ فِي تَصَدَّقَ لِلَّهِ لِلْمِلْكِ وَفِي أَهْدَى أَوْ وَهَبَ لِلَّهِ تَعَالَى لِلتَّعْلِيلِ فَالْمُتَصَدِّقُ مُمَلِّكٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا أَنَّ الْوَقْفَ يَنْتَقِلُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمُهْدِي مُمَلِّكٌ لِلْمُهْدَى إلَيْهِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ اللَّهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مِنَّةَ عَلَى الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ لِلْمُتَصَدِّقِ إذْ لَا تَمْلِيكَ مِنْهُ لَهُ وَلَا يَدَ لَهُ عَلَيْهِ وَمَيْلُهُ لَهُ بِسَبَبِ