ذَلِكَ لِأَنَّ الْقُلُوبَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا بِخِلَافِ الْهَدِيَّةِ فَإِنَّهَا تَسْتَدْعِي الثَّوَابَ عَلَيْهَا عَادَةً إمَّا بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِهِ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ وَلَوْ حَرَّمْنَا عَلَى الْقَاضِي الصَّدَقَةَ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْوَقْفَ لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ. اهـ. فَأَفْهَمْ أَنَّ الْوَقْفَ لَا نِزَاعَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ فِي حِلِّهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الصَّدَقَةِ أَيْ وَالْأَوْجَهُ فِيهَا مَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ وَشَيْخِنَا مِنْ الْحُرْمَةِ كَالْهَدِيَّةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حُرِّمَتْ الْهَدِيَّةُ لِأَجْلِهِ مَوْجُودٌ فِي الصَّدَقَةِ بِتَمَامِهِ وَفَرْقُ السُّبْكِيّ الْمَذْكُورُ بَيْنَهُمَا لَا يُجْدِي شَيْئًا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ عَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالنَّظَرِ إلَى الْحَقَائِقِ وَالتَّقْدِيرَاتِ الْبَعِيدَةِ عَنْ أَفْهَامِ النَّاسِ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ فِي رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِهِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُرْبَطُ بِالْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَبَادِرَةِ لِلْأَفْهَامِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ وَالتَّقْدِيرَاتِ الْبَعِيدَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ الْمَيْلُ فَكَمَا حُرِّمَتْ الْهَدِيَّةُ لِذَلِكَ فَلْتُحَرَّمْ الصَّدَقَةُ لَهُ أَيْضًا ثُمَّ رَأَيْت الزَّرْكَشِيّ وَالْجَوْجَرِيَّ وَابْنَ أَبِي شَرِيفٍ.
وَغَيْرَهُمْ رَجَّحُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ كَالْهَدِيَّةِ وَبَحَثَ أَبُو زُرْعَةَ فِي التَّحْرِيرِ وَشَرْحِ الْبَهْجَةِ جَوَازَ أَخْذِهِ الزَّكَاةَ قَطْعًا وَأَنَّهُ لَوْ وَفَّى عَنْهُ إنْسَانٌ دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ جَازَ قَطْعًا وَبِإِذْنِهِ بِشَرْطِ عَدَمِ الرُّجُوعِ لَا يَجُوزُ قَطْعًا. اهـ. وَرُدَّ قَطْعُهُ بِحِلِّ أَخْذِ الزَّكَاةِ بِتَصْرِيحِهِمْ بِمَنْعِ أَخْذِهِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِ وَعَلَّلُوهُ بِمَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ حَيْثُ قَالُوا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَامِلِ الْإِمَامُ وَالْوَالِي وَالْقَاضِي إذْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الزَّكَاةِ بَلْ رِزْقُهُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ قَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ يَظْهَرُ أَخْذُهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِ إذَا أَذِنَ لِلْإِصْلَاحِ وَمِنْ سَهْمِ الْغَازِي الْمُتَطَوِّعِ وَقَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى فِي قُضَاةِ الْعَصْرِ بِأَخْذِهِمْ الزَّكَاةَ مُطْلَقًا وَهُوَ خَطَأٌ مُطْلَقًا. اهـ. فَإِنْ قُلْت فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ مَعَ أَنَّهُ صَدَقَةٌ قُلْت الْوَقْفُ لَا صُنْعَ فِيهِ مِنْ الْقَاضِي إنْ قُلْنَا بِمَا قَالَهُ جَمْعٌ مُتَقَدِّمُونَ وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الرَّوْضَةِ فِي السَّرِقَةِ.
وَنَقَلَهُ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَعَلَّلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَزُولُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالْعِتْقِ يَعْنِي يَنْفَكُّ عَنْ اخْتِصَاصِ الْآدَمِيِّينَ فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى مُقَابِلِهِ مِنْ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ فِي الْمِنْهَاجِ كَأَصْلِهِ.
وَنَقَلَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ جَمْعٍ مُتَقَدِّمِينَ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَيْلَ فِي الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْمِلْكَ التَّامَّ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ بِمَا أَرَادَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي اسْتِبَاحَةَ مَنْفَعَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَفَرْقٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ عَقْدٍ يَقْتَضِي اسْتِقْلَالَهُ وَعَدَمَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَعَقْدٌ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ بَلْ عَكْسَهُ وَهُوَ الْوَقْفُ فَلَمْ يَظْهَرْ إلْحَاقُهُ بِهِمَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا نَظَرًا إلَى أَنَّهُ يُفْضِي إلَى مَيْلٍ مِثْلَهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَيْلُ لَكِنْ لَوْ كَانَ النَّظَرُ لِمُطْلَقِ الْمَيْلِ حُرِّمَتْ الْهَدِيَّةُ إلَيْهِ وَلَوْ مِمَّنْ اعْتَادَهَا قَبْلَ التَّوْلِيَةِ فَلَمَّا جَوَّزُوا ذَلِكَ لَهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا تَعْوِيلَ إلَّا عَلَى مَا يَسْتَدْعِي مَيْلًا قَوِيًّا مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ قَرِينَةٍ بِضَعْفِ مَا أَشْعَرَ بِهِ مِنْ الْمِيلِ ثُمَّ رَأَيْت الزَّرْكَشِيّ قَالَ فِي خَادِمِهِ أَهْمَلَ الرَّافِعِيُّ الْوَقْفَ كَمَا لَوْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ الْوَقْفَ عَلَيْهِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَالْهَدِيَّةِ إنْ شَرَطْنَا الْقَبُولَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي الصِّحَّةُ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَى الْقَاضِي دَيْنٌ فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ فَلَا يُتَخَيَّلُ فِيهِ مَنْعٌ وَأَمَّا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ فِي الْمُدْرَسَةِ أَنْ تَكُونَ تَدْرِيسًا لِلْقَاضِي وَكَانَ لِلتَّدْرِيسِ مَعْلُومٌ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَيْ السُّبْكِيّ يَنْبَغِي أَنْ تَتَخَرَّجَ صِحَّةُ هَذَا الشَّرْطِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَزَقَ أَهْلُ الْوِلَايَةِ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْ الْإِمَامُ مِنْ خَاصِّ نَفْسِهِ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ يَجُوزُ وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ فَيُحْتَمَلُ بُطْلَانُ هَذَا الشَّرْطِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنْ طَلَبَ الْقَاضِي التَّدْرِيسَ مِنْ غَيْرِ مَعْلُومٍ أُجِيبُ إلَيْهِ وَيَصِحُّ الشَّرْطُ لِأَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَهُ أَكْثَرَ وَهَذَا غَرَضٌ صَحِيحٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يُجَابُ وَيَأْخُذُ الْمَعْلُومَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَعَيِّنًا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْهَدِيَّةِ وَهَذَا فِي حَيَاةِ الْوَاقِفِ أَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُتَخَيَّلُ فِيهِ مَنْعٌ. اهـ.
وَحَاصِلُ كَلَامِهِ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ أَنَّهُ مُوَافِقٌ عَلَى مَا قَدَّمْته مِنْ صِحَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute