شَهِدَ مِنْهُمْ مُعْتَمِدًا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُخَلِّصْهُ إذْ لَمْ يَنْتَهِ إلَى تَوَاتُرٍ وَلَا اسْتِفَاضَةٍ وَلَا رُكُونٍ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَلْ إلَى ظَنٍّ ضَعِيفٍ وَهُوَ مُسَوِّغٌ لِلْمُخَاطَبَةِ لَا لِلشَّهَادَةِ فَإِذَا رَأَيْنَا مَكْتُوبًا لَيْسَ مَقْصُودُهُ إثْبَاتَ النَّسَبِ لَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ وَلَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ فِي إثْبَاتِهِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ غَيْرَهُ وَهُنَا بَحْثٌ نَذْكُرهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ} [التحريم: ١١] الْآيَة.
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص: ٩] فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَضْعَ هَذَا الْكَلَامِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَلْيَكُنْ قَوْلُنَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو كَذَا إخْبَارًا بِأَنَّهُ ابْنُ عَمْرٍو فَتَحْصُلُ الشَّهَادَةُ بِهِ فَتَقْتَضِي ثُبُوتَهُ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ دَلَالَةُ الْتِزَامٍ وَدَلَالَةُ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالْقَوْلِ دَلَالَةُ مُطَابِقَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهَا هَلْ هِيَ امْرَأَتُهُ أَوْ لَا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ اقْتَضَى أَنَّهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَأَمَّا الشُّهُودُ فَلَيْسُوا عَالِمِينَ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ فَإِنْ قَالُوا نَشْهَدُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو الْحُسَيْنِيِّ وَصَرَّحُوا بِالشَّهَادَةِ بِنَسَبِهِ وَنِسْبَتِهِ رَجَعَ إلَيْهِمْ وَإِلَّا لَمْ يُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ بِحَقَائِقِ الْأَحْوَالِ وَالنَّسَبِ غَالِبًا وَإِنَّهُمْ إنَّمَا اعْتَمَدُوا عَلَى أَدْنَى ظَنٍّ فَضَعُفَتْ الدَّلَالَةُ الِالْتِزَامِيَّة فِي كَلَامِهِمْ بَلْ لَوْ قَوِيَتْ لَمْ تُعْتَمَدْ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الَّذِي يُقْصَدُ إثْبَاتُهُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَهُ الشَّاهِدُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً كَانَ أَوْ الْتِزَامًا فَافْهَمْ الْفَرْقَ بَيْن الْمَوْضِعَيْنِ. اهـ كَلَامُهُ مُلَخَّصًا وَهُوَ مَعْزُورٌ فِيهِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْفَرْعَ لَيْسَ بِمَنْقُولٍ وَإِنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ.
وَفِي مَسْأَلَتَيْ الْحُدُودِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ بِرَأْيِهِ وَبِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَجِيبٌ مِنْهُ مَعَ سِعَةِ اطِّلَاعِهِ إذْ كَيْفَ لَمْ يَسْتَحْضِرْ مَسْأَلَةَ النَّسَبِ الْمُصَرَّحِ بِهَا فِي كَلَامِهِمْ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَا ابْنُهُ تَاجُ الدِّينِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ مَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ وَمَا يُشَابِهُهَا كَمَا قَالَ فِي مَسْأَلَتَيْ الْحُدُودِ رَأْيٌ لَهُ مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ وَلِنُبَيِّنَ أَوَّلًا مَسْأَلَةَ النَّسَبِ الْمَنْقُولَةِ ثُمَّ نُبَيِّنَ مَا هُوَ مَقِيسٌ عَلَيْهَا مِنْ مَسْأَلَتَيْ الْحُدُود مُتَعَرِّضِينَ لِمَا فِي كَلَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ نَقْدٍ وَرَدٍّ.
فَنَقُولُ قَالَ الْهَرَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْإِشْرَاقِ وَالْمَاوَرْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْحَاوِي وَالرُّويَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِمْ مَا حَاصِلُهُ لَوْ شَهِدَا أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَكَّلَ فُلَانًا كَانَتْ شَهَادَةً بِالنَّسَبِ لِلْمُوَكَّلِ ضِمْنًا وَبِالتَّوْكِيلِ أَصْلًا لَتَضَمُّنِ ثُبُوتِ التَّوْكِيلِ الْمَقْصُودِ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْمُوَكِّل لِغَيْبَتِهِ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَقِيلَ لَا كَمَا يَأْتِي وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَهِيَ أَنَّ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْخَبَرِ النِّسْبَةُ الْإِسْنَادِيَّةُ كَالنِّسْبَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا نَائِمٌ مِنْ قَوْلِكَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو نَائِمٌ لَا مَا يَقَعُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ النِّسَبِ التَّقْيِيدِيَّةِ كَبُنُوَّةِ زَيْدٍ لِعَمْرٍو فِي هَذَا الْمِثَالِ وَيُفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ مَوْرِدَ الْخَبَرِ مَا ذُكِرَ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْوَكَالَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا شَهَادَةٌ بِالتَّوْكِيلِ دُونَ نَسَبِ الْمُوَكِّلِ وَيَشْهَدُ لِلرَّاجِحِ عِنْدنَا وَهُوَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ بِهِمَا كَمَا مَرَّ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.
وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا أَنَّهُ يُقَال لِلنَّصَارَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ وَإِذَا تَقَرَّرَ لَك ذَلِكَ وَعَلِمْتَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةً هَكَذَا وَإِنَّهَا مَشْهُورَةٌ خِلَافِيَّةٌ بَيْننَا وَبَيْنَ مَالِكٍ وَأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا وَافَقَ مَالِكًا وَأَنَّ الرَّاجِحَ مُخَالَفَتُهُ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْت ظَهَرَ لَكَ وَاتَّضَحَ أَنَّ جَمِيعَ مَا قَالَهُ السُّبْكِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ وَمَسْأَلَتَيْ الْحُدُودِ إنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ وَأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا الرَّأْيَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مَنْقُولَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ هُوَ بِقَوْلِهِ فَرْعٌ لَيْسَ بِمَنْقُولٍ وَبِمَا ذَكَرَهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ وَخِلَالَ مَسْأَلَتَيْ الْحُدُودِ وَأَنَّهُ لَوْ رَأَى مَسْأَلَةَ النَّسَبِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا لَمْ يَسَعْهُ مُخَالَفَتهَا وَلَمَّا أَجَابَ عَنْ إيرَادِهِ دَلِيلهَا عَلَيْهِ وَهُوَ {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: ٩] .
بِقَوْلِهِ إنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ دَلَالَةُ الْتِزَامِ إلَخْ وَإِذَا اتَّضَحَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute