بَعْد أَنْ رَأَى جَوَابَهُ هَذَا الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْأَمْرُ السَّادِسُ أَنَّ الْإِمَامَ شِهَابَ الدِّينِ الْأَذْرَعِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا كَلَامًا فِيمَا إذَا فَاتَتْ الْعَدَالَةُ فِي شُهُودِ الْحَاكِمِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الْأَذْرَعِيُّ فِي الْقَضَاءِ مِنْ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَقَالَ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فَوَاتَ الْعَدَالَةِ لَا يُغَيِّرُ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالسِّتْرِ فِي شَاهِدِ عَقْدِ النِّكَاحِ مَثَلًا لِأَنَّ النِّكَاحَ يَقَعُ غَالِبًا بَيْنَ أَوْسَاطِ النَّاسِ وَالْعَوَامِّ وَفِي الْبَوَادِي وَالْقُرَى فَلَوْ كُلِّفُوا مَعْرِفَةَ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ لَطَالَ الْأَمْرُ وَشَقَّ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ مُرَاجَعَةُ الْمُزَكِّينَ وَمَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ جَوَابُ الْأَوَّلِ.
وَأَجَابَ الثَّانِي فَقَالَ: لَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ رَأَوْا اغْتِفَار مَا يَغْلِبُ مُخَالَطَةُ النَّاسِ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُفَسَّقًا إذَا عُرِفَ صَاحِبُهُ بِالتَّصَوُّنِ عَنْ الْكَذِبِ وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ فَصَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَيَدُلُّ لَهُ تَصْحِيحُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ لِمَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ لِفِسْقٍ وَغَيْرِهِ مَعَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا حُرِّرَ مِنْ الْفِقْهِ حَتَّى صَرَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ صَحَّتْ قَطْعًا وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الرِّفْعَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ الْحَقَّ.
الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اعْتَبَرَ الْأَغْلَبَ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الطَّاعَةَ وَنَدَرَتْ الْمَعْصِيَةُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ عَدْلٌ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الصَّغَائِرَ فَهُوَ فَاسِقٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: ٨] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: ٩] فَاعْتَبَرَ الْكَثْرَةَ وَالْغَلَبَةَ لِأَنَّ فِي النَّفْسِ دَوَاعِيَ الطَّاعَاتِ وَدَوَاعِيَ الْمَعَاصِي فَاعْتُبِرَ الْأَغْلَبُ وَهُوَ كَمَا يُعْتَبَر فِي الْمَاءِ إذَا اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ وَفِي الرَّافِعِيِّ الْإِصْرَارُ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْفِعْلِ لَكِنَّهُ قَالَ هَلْ الْمُدَاوَمَة عَلَى نَوْعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ أَوْ الْإِكْثَارُ مِنْ الصَّغَائِرِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ فِيهِ وَجْهَانِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْجُمْهُورِ يُوَافِقُ الثَّانِيَ فَعَلَى هَذَا لَا تَضُرُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ إذَا غَلَبَتْ الطَّاعَاتُ الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّا لَوْ كُلِّفْنَا الْبَحْثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ لَحَصَلَ عَلَيْهِمْ الضَّرَرُ وَلَاِتَّخَذَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبِلَادِ ذَرِيعَةً حَتَّى يَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: ٧] وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْأَمْرُ إذَا ضَاقَ اتَّسَعَ سِيَّمَا أَنَّ الشَّيْخَ مُحْيِيَ الدِّينِ النَّوَوِيَّ قَالَ فِي بَابِ نَقْضِ الْكَعْبَةِ مِنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ إذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةٌ وَمَفْسَدَةٌ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ فِعْلِ الْمَصْلَحَةِ وَتَرْكِ الْمَفْسَدَةِ بُدِئَ بِالْأَهَمِّ وَقَالَ فِي بَابِ الْخَدِيعَةِ مِنْ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَاحْتِمَالُ الْمَفْسَدَةِ الْيَسِيرَةِ لِدَفْعِ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ إلَّا بِذَلِكَ اهـ. وَجَوَابُ الثَّانِي فَمَا الرَّاجِحُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ أَوَّلُهُمَا وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ عِنْد الْحَاكِمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْعُدُول فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ قَلِيلِينَ أَوْ كَثِيرِينَ لِمَا ذَكَره الْمُجِيبُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ نَظَرٌ يُعْرَف لِلْمُتَأَمِّلِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَشْهَدَ الْفَاسِقُ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا إلَخْ فَإِنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ فِسْقُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَتَارَةً يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِالْحَقِّ وَإِنْ خَفِيَ فِسْقُهُ كَذَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ لَكِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَحْرِيمِ الْأَدَاءِ مَعَ الْفِسْقِ الْخَفِيِّ نَظَرٌ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ بِحَقِّ وَإِعَانَةٌ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا إثْمَ عَلَى الْقَاضِي إذَا لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ يَتَّجِهُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي الْأَدَاءِ إنْقَاذُ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ بُضْعٍ قَالَ وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِسْقِ الظَّاهِرِ بِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ بِالْخَفِيِّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَبِالظَّاهِرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَصَرَّحَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فِيهِمَا مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ بِعَدَمِ التَّحْرِيمِ وَقَالَ إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَنَقَلَ أَعْنِي الْأَذْرَعِيَّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مَا يُوَافِقهُ وَهُوَ قَوْلُهُ لَوْ شَهِدَ أَبُو الْوَلَدِ لِوَلَدِهِ أَوْ الْعَدُوُّ عَلَى عَدُوِّهِ أَوْ الْفَاسِقُ بِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ الْحَقِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute