الْإِنْفَاقِ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهِ كَمَا مَرَّ وَإِذَا لَمْ يَثْبُت فَإِنْ اسْتَمَرَّ الْمُنْفِقُ عَلَى دَعْوَى الْإِذْنِ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ إنَّمَا أَنْفَقْتُ لِظَنِّي الْإِذْنَ وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ رَجَعَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ وَأَمَّا مَا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْفَقَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ (فَائِدَة) اعْلَمْ أَنَّ مَا قَدَّمْتُهُ عَنْ السُّبْكِيّ وَابْنِ الصَّلَاحِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُشْكِلٌ فَإِنَّ كَلَامَ الْأَصْحَابِ دَالٌّ عَلَى خِلَافِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ لِلْغَرِيمِ ابْتِدَاءُ الدَّعْوَى إذَا تَرَكَهَا الْوَارِثُ أَوْ الْمُفْلِسُ ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَجَرَى ابْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى مَا يُوَافِقهُ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ أَثْبَت دَيْنًا عَلَى امْرَأَةٍ مَيِّتَةٍ وَادَّعَى عَلَى زَوْجِهَا أَنَّ لَهَا عَلَيْهِ مَهْرًا وَلَمْ يَدَّعِ بِذَلِكَ وَارِثُهَا فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ يَدَّعِي حَقًّا لِغَيْرِهِ غَيْرَ مُنْتَقِلٍ مِنْهُ إلَيْهِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ ثَبَتَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ تَعَلَّقَ كَمَا لَوْ ادَّعَتْ الزَّوْجَةُ دَيْنًا لِزَوْجِهَا أَيْ فَإِنَّهَا لَا تُسْمَعُ وَإِنْ كَانَ لَوْ ثَبَتَ لَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ النَّفَقَةِ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ بَلْ جَزَمَ بِهِ الشَّرَفُ الْغَزِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَيْرُهُ لَكِنَّهُ نَاقَضَ نَفْسَهُ حَيْثُ قَالَ لَوْ كَانَ حَقٌّ عَلَى مَيِّتٍ
وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ وَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ جَاءَ بِمَحْضَرٍ يَتَضَمَّنُ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ وَأَرَادَ أَنْ يُثْبِتَهُ لِيَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ وَلَمْ يُوَكِّلهُ الْوَارِثُ فِي إثْبَاتِهِ فَالْأَحْسَنُ الْقَوْلُ بِجَوَازِ ذَلِكَ قَالَ الْغَزِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ وَاضِحٌ وَصَرَّحَ بِمِثْلِهِ السُّبْكِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي فَتَاوِيهِ فَقَالَ لِلْوَارِثِ وَالْمُوصِي وَالدَّائِنِ الْمُطَالَبَةُ بِحُقُوقِ الْمَيِّتِ. اهـ. وَعِنْدَ تَأَمُّلِ كَلَامَيْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَالسُّبْكِيِّ الْمَذْكُورَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ فَرَضَ الْأَوَّلَ فِي الدَّيْنِ وَالثَّانِيَ فِي الْعَيْنِ فَهُوَ قَائِلٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الدَّيْنَ لَا تُسْمَعُ فِيهِ الدَّعْوَى مِنْ الْغَرِيمِ بِخِلَافِ الْعَيْنِ وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ لِشَيْخِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ حَيْثُ قَالَ فِي مُخْتَصَرِ أَدَبِ الْقَضَاءِ لِلشَّرَفِ الْغَزِّيِّ تَبَعًا لَهُ وَهَذَا أَيْ مَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - آخِرًا لَا يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ لَيْسَ لِلدَّائِنِ أَنْ يَدَّعِي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِغَرِيمِهِ الْغَائِبِ أَوْ الْمَيِّتِ وَإِنْ قُلْنَا غَرِيمُ الْغَرِيمِ غَرِيمٌ أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِجَوَازِ الظَّفَرِ بِمَالِهِ بِشَرْطِهِ لِلْفَرْقِ بَيْن الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ. اهـ. وَالْفَرْقُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ هُوَ أَنَّهُ بِالْمَوْتِ تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِأَعْيَانِ مَالِهِ لِرَهْنِهَا بِهِ شَرْعًا بِخِلَافِ الدَّيْنِ وَبِخِلَافِ الْغَرِيمِ الْحَيِّ حَاضِرًا كَانَ أَوْ غَائِبًا لِأَنَّ مَالَ دَائِنهمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِمَا عَلَى الْغَرِيمِ أَوْ عِنْدَهُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ قَبْلَهُ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي مِثْل ذَلِكَ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ تَعَلُّقٌ تَقْدِيرِيٌّ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ السَّابِقِ فِي الْمَيِّتِ
فَإِنْ قُلْتَ غَايَةُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ أَنَّهُ تَصِيرُ الْأَعْيَانُ مَرْهُونَةً كَمَا تَقَرَّرَ فَيَكُونَ الْغَرِيمُ كَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُقَرَّرُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُخَاصِمُ وَإِنْ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ الْخِصَامِ إلَّا لِعُذْرٍ قُلْتُ طَلَبُ الْمُسَارَعَةِ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ اقْتَضَتْ أَنْ يُوَسَّعَ فِي طُرُقِهَا بِتَمْكِينِ كُلٍّ مِنْ الْوَارِثِ وَالْوَصِيِّ وَالدَّائِنِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلِيَّهُ إذَا تَحَمَّلَ دَيْنَهُ بَرِئَ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ وَسَبَبُ خُرُوجِهِ عَنْهَا الْحَاجَةُ إلَى تَعْجِيلِ بَرَاءَتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا سَاغَ طَلَبُ الدَّائِنِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ لِلْحَاجَةِ إلَى تَعْجِيلِ ذَلِكَ بِتَوْسِيعِ طُرُقِهِ فَإِنْ قُلْتَ هَذِهِ الْعِلَّةُ تَقْتَضِي أَنَّ الدَّيْنَ كَالْعَيْنِ فِي ذَلِكَ قُلْتُ الدَّيْنُ لَمَّا كَانَ أَمْرًا تَقْدِيرِيًّا ضَعُفَ عَنْ أَنْ يَلْحَقَ بِالْعَيْنِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْحَاجَةُ فِي الطَّلَبِ بِهِ حَتَّى يَسُوغَ تَجْوِيزُهُ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ عَلَى أَنَّ ابْنَ الْأُسْتَاذِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَظَرَ لِذَلِكَ فَأَلْحَقَهُ بِالْعَيْنِ فَجَوَّزَ لِلْغَرِيمِ الطَّلَبَ أَيْضًا إذَا أَعْرَضَ الْوَارِثُ أَوْ تَكَاسَلَ وَرَدَّ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا مَرَّ عَنْهُ أَوَّلًا فِي الدَّيْنِ فَقَالَ عَقِبه بَلْ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ إذَا أَعْرَضَ الْوَارِثُ أَوْ تَكَاسَلَ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَوْنُهُ لَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا يَخْلُفُهُ الْمَيِّتُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ وَفَاءُ دَيْنِ الْمَيِّتِ مِنْ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَا دَيْنٍ حَتَّى لَوْ كَانَ عِنْدَهُ رَهْنٌ كَانَ لِلرَّاهِنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute