صَلَوَاتٍ بِعَدَدِ الْخَلْقِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ، وَمِنْ مَزِيدِ كَرَمِهِ وَسَابِغِ مِنَّتِهِ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: تَعْدِلُ ثُلُثَهُ بِلَا تَضْعِيفٍ.
وَقِيلَ: إنَّهَا ثُلُثُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَحْكَامُ وَالْقَصَصُ وَالتَّوْحِيدُ. وَقِيلَ: تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِمَنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَّا هِيَ وَيَمْنَعُهُ مِنْ تَعَلُّمِ غَيْرِهَا مَانِعٌ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
(وَسُئِلَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - بِمَا لَفْظُهُ: مَا حُكْمُ مَنْ يُنْكِرُ الدُّعَاءَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: لَا يُنْكِرُ الدُّعَاءَ إلَّا كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، وَوَعَدَهُمْ بِالِاسْتِجَابَةِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثَةٍ؛ إمَّا اسْتِجَابَةٌ أَوْ ادِّخَارٌ، أَوْ يُكَفِّرُ عَنْهُ.
وَفِيهِ أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِ لَا تُرَدُّ مَا لَمْ تَكُنْ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ؛ فَفِي إحْدَى الثَّلَاثَةِ اسْتِجَابَةٌ وَفِي الْآخَرَيْنِ تَعْوِيضُ الِاسْتِجَابَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: ٧١] وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي الْعَبْدَ وَهُوَ يُحِبُّهُ لِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ» .
وَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ يَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ؛ فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ إنْ شِئْت، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ الِاسْتِغْنَاءِ وَعَدَمِ الِافْتِقَارِ.
وَالدُّعَاءُ إنَّمَا وُضِعَ لِمَزِيدِ التَّذَلُّلِ وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ وَالِاحْتِيَاجِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ» أَيْ: بَلْ يَنْبَغِي الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» ، وَلَا تَيْأَسْ مِنْ الْإِجَابَةِ وَلَا تَسْأَمْ مِنْ الرَّغْبَةِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُحْرَمْ مِنْ إحْدَى تِلْكَ الثَّلَاثِ.
وَمَنْ أَدْمَنَ قَرْعَ بَابِ الْكَرِيمِ يُوشِكُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُ، قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: قَوْلُهُ: يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ، يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالْجَوَازَ؛ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلَ - فَلَا بُدَّ مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ فَإِذَا عَجِلَ بَطَلَ وُجُوبُ أَحَدِهَا، وَتَعَرَّى الدُّعَاءُ عَنْ جَمِيعِهَا.
وَعَلَى الْجَوَازِ تَكُونُ الْإِجَابَةُ بِفِعْلِ مَا دَعَا وَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْجَالُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ وَهُوَ مُوقِنٌ بِالْإِجَابَةِ وَبِقَلْبٍ حَاضِرٍ لِخَبَرٍ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْخَطِيبُ، وَهُوَ: «اُدْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ مِنْ قَلْبٍ لَاهٍ» .
وَآكَدُ آدَابِ الدُّعَاءِ أَكْلُ الْحَلَالِ وَلُبْسُهُ، وَلَهُ آدَابٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنْتهَا مَعَ شُرُوطِهِ وَوَاجِبَاتِهِ وَحُرُمَاتِهِ وَمُكَفِّرَاتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ - بِمَا لَمْ يُجْمَعْ مِثْلُهُ فِيمَا أَحْسِبُ فَاطْلُبْ ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ مُهِمٌّ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ دَاءِ الْوَسْوَسَةِ هَلْ لَهُ دَوَاءٌ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَهُ دَوَاءٌ نَافِعٌ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً.
وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ مِنْ التَّرَدُّدِ مَا كَانَ - فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَلْتَفِتْ لِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ بَلْ يَذْهَبُ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقُونَ، وَأَمَّا مَنْ أَصْغَى إلَيْهَا وَعَمِلَ بِقَضِيَّتِهَا فَإِنَّهَا لَا تَزَالُ تَزْدَادُ بِهِ حَتَّى تُخْرِجَهُ إلَى حَيِّزِ الْمَجَانِينِ بَلْ وَأَقْبَحَ مِنْهُمْ، كَمَا شَاهَدْنَاهُ فِي كَثِيرِينَ مِمَّنْ اُبْتُلُوا بِهَا وَأَصْغَوْا إلَيْهَا وَإِلَى شَيْطَانِهَا الَّذِي جَاءَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «اتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ» أَيْ: لِمَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ اللَّهْوِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ كَمَا بَيَّنْت ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي شَرْحِ مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ، وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته وَهُوَ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَعْتَقِدْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الدَّوَاءَ النَّافِعَ الَّذِي عَلَّمَهُ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى لِأُمَّتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ مِنْ الشَّيْطَانِ اتِّفَاقًا، وَاللَّعِينُ لَا غَايَةَ لِمُرَادِهِ إلَّا إيقَاعُ الْمُؤْمِنِ فِي وَهْدَةِ الضَّلَالِ وَالْحَيْرَةِ وَنَكَدِ الْعَيْشِ وَظُلْمَةِ النَّفْسِ وَضَجَرِهَا إلَى أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ.
وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخِذُوهُ عَدُوًّا.
وَجَاءَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ فِيمَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَقُلْ: آمَنْت بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اسْتَحْضَرَ طَرَائِقَ رُسُلِ اللَّهِ سِيَّمَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَ طَرِيقَتَهُ وَشَرِيعَتَهُ سَهْلَةً وَاضِحَةً بَيْضَاءَ بَيِّنَةً سَهْلَةً لَا حَرَجَ فِيهَا وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ وَآمَنَ بِهِ حَقَّ إيمَانِهِ ذَهَبَ عَنْهُ دَاءُ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى شَيْطَانِهَا.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «مَنْ بُلِيَ بِهَذَا الْوَسْوَاسِ فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ثَلَاثًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُهُ عَنْهُ» وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ نَحْوَ مَا قَدَّمْته فَقَالُوا: دَوَاءُ الْوَسْوَسَةِ أَنْ